منوعات

”أغنية البجعة”.. حكاية ممثل في ظهوره الأخير

ما هو الشعور الذي ينتاب الممثل في آخر عمل درامي يقوم بأدائه؟ ماذا يدور في ذهنه من ذكريات مريرة وخيبة أمل تجاه فقد من يحب؟. هذا ما يتناوله ويتقصاه فلم المخرجة السعودية هناء العمير “أغنية البجعة”، المقتبس عن مسرحية الكاتب العالمي أنطوان تشيكوف، وتمثيل أسامة القس وغازي حمد، وإنتاج مؤسسة الصحراء الفنية — أفلام برودكشن.

في البداية علينا أن نعرف أن “أغنية البجعة” هو تعبير مجازيٍ يرمز إلى آخر عمل أو جهد قبل الوفاة أو الرحيل. ويعود هذا التعبير إلى اعتقادٍ قديم مفاده أن البجع يغني قبل لحظات من موته بعد أن ظلَّ صامتاً طيلة حياته.

يستند هذا الاعتقاد في واقع الأمر إلى جدلٍ طويل، فقد كان مثلاً يُضرب في اليونان القديمة في القرن الثالث قبل الميلاد. وفي وقت لاحق، أُعيد التأكيد عليه مرات كثيرة في الشعر والفن الغربي. وبمرور الوقت، أصبحت “أغنية البجع” مصطلحاً يُشير إلى الظهور المسرحي أو الدرامي الأخير، أو أي عمل أو إنجاز أخير.

بصفة عامة، يدل هذا التعبير على أن المؤدي يعي أن هذا هو آخر عرض له في حياته، وأن عليه أن يبذل كل ما في وسعه في محاولة أخيرة لإظهاره بأحسن صورة.

رؤية العمير الإخراجية

لكن المخرجة هناء العمير تناولت أحداث مسرحية تشيكوف من وجهة نظر سينمائية جديدة، وتجلَّت مقدرتها الإبداعية في تحويل عمل مسرحي له سماته المحدَّدة إلى فِلْم سينمائي يدور في موقع واحد وبلقطة تصويرية طويلة واحدة، استغرقت 18 دقيقة، وبأداء ممثل واحد تقريباً، هو الممثل أسامة القس الذي يسرد الحدث عن طريق الحوار أو خطبة، بمشاركة طفيفة من الممثل غازي حمد. وأحدثت العمير تغييرات طفيفة ممكنة ومتاحة في تحويل النص من عمل مسرحي إلى عمل سينمائي بالغ القيمة الفنية.

تحكي القصة عن مدرِّس يهوى التمثيل المسرحي؛ وأنهكه فقدان حبيبته، استيقظ من غفوة على أرضية خشبة المسرح، وهوى يؤدي دوره في مسرحية أغنية البجعة، ولكن تملكته حالة شعورية هي مزيج من اليأس والاستياء والعزلة والخسارة. فيخرج عن أداء دوره، ليختلط واقعه بدوره الدرامي. فهو يشعر بأن المجتمع لا يقدِّر فنَّه ولا يحترمه وينظر إليه كشخص ضئيل القيمة، وقد انتحى في مخزن قصي للأغراض المسرحية وراح يتداعى حزيناً وكئيباً.. نراه يستعيد مقاطع من مسرحيات أدَّاها أثناء مسيرته الفنية، يتحدث باللغة العربية الفصحى، ويستعيد شخصية عطيل التي أداها من قبل، ويروي للجمهور المتخيَّل أن سبعة أشخاص فقط حضروا تلك المسرحية.. ولكنها لم تكن من بينهم. من هي هذه التي لم تكن هنا؟ ربما حبيبته.

واقع مأزوم وحبكة تراجيدية

ينتقل الممثل إلى تجسيد يعبِّر عن واقعه، فيغيِّر طريقة كلامه من الفصحى إلى العامية. ثم يعود إلى تجسيد شخصية أخرى من مسرحياته بالفصحى، ينتقل بعدها إلى ديالوج مفرد يخاطب فيه حبيبته التي لا تريد الزواج منه لأنه ممثل… هنا أيضاً تتجلى الإضافة إلى نص مسرحية تشيكوف.

يتمتم الممثِّل: خسرت كل شيء، خسرت حبيبتي، خسرت جمهوري… تصعيد درامي آخر، ينقلنا فيه القس إلى أداء كوميدي، يعود بعده إلى مخاطبة الجمهور المتخيَّل بأداء تراجيدي يحاكم فيه أهل حبيبته لأنهم لن يزوجوه ابنتهم… مزاوجة بين حالة آنية وحالة مصيرية جعلت من مرافعته بمثابة أغنية البجعة الأخيرة.

لعل حبيبته ترمز للشهرة ولاعتراف الجماهير بفنه، وهو ما يمثِّل الاعتراف بكينونته وأهمية وجوده في هذه الحياة. فالحبيبة هنا رمز للنجاح، للمجد المتأتي من الفن الرصين، وكأن الفِلْم يريد أن يلفت انتباهنا إلى أهمية نصرة الفن الراقي، فلا يغادر رموزه خشبة مسرح الوجود وهم مهزومون.

رثاء للفن الرصين

قد تكون الأغنية الأخيرة رثاء عاشق لحاله، أو رثاءً للفن عندما يمتهن. لذلك قرَّر أن يرحل عن هذا المسرح (الساحر) كما يصفه أو يعتزل الحياة الفاترة.. ويعود إلى تقمص كراكتر إمبراطور، ربما هو يوليوس قيصر أو أي إمبراطور آخر مهزوم عاطفياً، ففي حين كان يوليوس قيصر يرتقي سلم المجد والشهرة في روما، كانت حياته الشخصية مليئة بالعثرات والمآسي، إذ تُوفيت زوجته الأولى “كورنيليا” وغادرته مثلما غادرت ممثلنا حبيبته… هي المأساة الغائرة في النفس التي دفعته للرحيل.

وفيما هو على هذه الحال يدخل عليه أحد طلابه (غازي حمد)، ويسأله: هل لدينا اختبار غداً. نعم. موسيقى عذبة موحية تنثال؛ ألَّفها الموسيقي إسلام صبري، في صورة يقتنصها بلال مهدي، وحركة كاميرا متقنة يديرها علاء الدين العزاوي، بإخراج فاتن لهناء العمير، تصوِّر فيه مغادرة الممثل المعلِّم وهو يغادر المسرح، بينما إضاءة خافتة صممها جاكير حسين وإسكندر كومار؛ توحي بنهاية مؤلمة، هزيمة ورحيل موجع. كرستها لمسات المخرجة الفنية تالا طرابيشي.

القس يقدِّم درساً ماتعاً

برع الممثل أسامة القس حين جسَّد الحالة السيكولوجية للممثل المتداعي، عبر جملة من العناصر الأدائية الدالة. إذ إنه استخدم ما يزيد على 10 نبرات صوتية مختلفة ومتباينة؛ لذلك تتجلى مهاراته العالية في فن الإلقاء والتقمُّص، موظِّفاً حركته الجسدية في علاقتها بالقطع الديكورية والإضاءة ومناطق مقدِّمة الخشبة وعمقها وأطرافها. ولعل واحدة من اللمحات الأدائية الأبرز في العرض، تلك اللحظات التي يستعيد فيها بعض المشاهد التي سبق له أن جسَّدها فوق الخشبة ويعيد تشخيصها، تارة بالفصحى وتارة بالعامية، مستعيناً بالإكسسوارات والألبسة وقطع الديكور المتوافرة في المخزن، وقد بنى بذلك فضاء على بُعدين، خشبة مسرح يشغلها هو بحضوره المرئي والمسموع، وثمَّة صالة تشغلها مقاعد خالية.

القس ذو مقدرة فذة على الانتقالات المتقمصة للشخصيات والأدوار التي يؤديها، بحيث يجعل المشاهد ينسى أنه أمام شخص واحد، بفعل هذا التلوُّن في تعبيرات الوجه ونبرات الصوت وحركة الجسم التي لا يتقنها إلا فنان موهوب ومتدرِّب كثيراً على الأدوار السيكولوجية المركبة الصعبة.

**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية

شفق #متابعات

صحيفة شفق الالكترونية
المدينة : جدة
الايميل : [email protected]
الجوال : 0552355833

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى