مقالات

يوم في مخيلتي

في مشهد من الرواية الشهيرة الجريمة والعقاب وقف (راسكولنيكوف) أمام (صوفيا) ابنة الرجل السكِّير، والتي امتهنت البغاء لمساعدة عائلتها الفقيرة جدًّا، وإعالة أخواتها الصغار بالرغم من شعورها بالذنب والاشمئزاز من نفسها، ولكن كان ذلك سبيلها الوحيد للحصول على المال.

وبعد أن أخبرته بمعاناتها نظر إلى وجهها الغارق بالدموع، وفجأة انحنى بحركة سريعة وسجد لها وقبَّل قدميها. قالت صوفيا وهي شاحبة الوجه متألمة:

ماذا تفعل أمامي؟ أنت تسجد؟!

قال لها (راسكولنيكوف):

أنا لا أسجد أمامك أنتِ، بل أمام معاناة البشرية كلها“.

وفي موقف آخر غريب وساخر جدًّا! قال الموسيقار العظيم بيتهوفن قبل أن يموت بلحظات حين فتح عينيه ونظر لِمن كان حوله. قال تلك الكلمات الأخيرة:

صفقوا يا إخوانفقد انتهت المهزلة

بين سجود (راسكولنيكوف) المتعاطف مع صوفيا وبين مهزلة الحياة التي انتهت بها حياة (بيتوفهن)، تظهر معاناة إنسان، خلق لأجل أن يُقاتِل الحياة، يصارع الألم، ليظفر بالعيش فيها.

يختلف البشر في حظوظهم من المعاناة، ونصيبهم من الألم، وجرعاتهم اليومية من الشقاء.

ويختلفون كذلك في ردود أفعالهم، وطريقة تعبيرهم، وتأثيرها عليهم،

فقد تكون جرعة الألم أقوى قرص مسكن، وقد يكون مستوى الإدراك أعمق من كمية المُخدِّر، وكمية المحاولات لا تكفي لإنقاذ الغريق.

في ذلك يقول الكاتب المغربي محمد شكري عن موت أمه:

عندما ماتت أمي لم أبكِ، كان الحزن أكبر من تصريفه عبر الدموع.

 لا بأس إن بكيت، ولا بأس أن تغلق باب غرفتك وتعتذر بالنوم، في حين أنت تعيد شريط المعاناة من البداية، أو أن تجلس في مقهى وحيدًا تراقب نهاية الشريط، وأنت تنصت للمعاناة، وتحاور الألم، ثم تبتلع بقايا دموعك في طريقك للخروج.

إن كانت المعاناة نصيبًا، والخيبة حظًّا، والوقوع فيه قدرًا، إلا أن التسليم به إيمان، والخضوع له إرادة، والتعامل معه حكمة.

صَاحِبْ أحزانك فحتمًا ستنتهي الرحلة، تَكيَّفْ مع ألمك حتى يتخدر، أنفخْ همومك كبالونٍ حتى ينفجر، أصرخْ في وجه حزنك حتى يقهر!

إن كانت المعاناة رحلة فاجعلها قصيرة، خفِّف من حمولتها، بالتنازل حينًا وبالتجاهل حينًا آخر، وبالصمت في أحيان كثيرة.

سينقذك ذكاؤك مرة وتظاهرك بالغباء مرات، وقد تجني من إهمالك أكثر من اجتهادك، وقد يحقق لك التأخير ما قد لا تصل اليه بالعجلة.

احترف الابتسامة عندما تغلبك الدموع، واختر الصمت عندما يغريك الكلام، وغادر حين تشعر فيها بعدم التقدير.

الحياة وُهبت لك مرة واحدة، فأنت لن تتكرر، بصفاتك الشخصية، وسماتك النفسية، وخصالك الأخلاقية.

بما أنك لا تتكرر؛ فأنت شخص مميز، فلا يغريك ما ترى الناس عليه، وما ينجذبون له، ومايتهافتون عليه، لأنك مميز حقًّا.

فما زال عندك أمل رغم كل الخيبات، ومازال لديك حلم رغم الخذلان، وماتزال تملك الشغف رغم عتمة الإحباط.

وكلنا ننتظر ذلك اليوم الذي قال عنه محمود درويش: “سأبقى بانتظار يوم جميل صنعته في مخيلتي“.

وأنت تصنعه، استرخٍ وتأمله، نَمْ وأنت تحلم به، وحتى يأتي انتظره على أمل أن يأتي ذات يوم.

وحتى لو لم يأتِ يكفي أنه منحك شعورًا فخمًا بالأمل، وضَخَّ فيك الحياة، وأغراك بالابتسام.

  بقلم

الكاتبة أمل الحربي

 

 

زهير بن جمعه الغزال

مراسل شفق المنطقة الشرقية الأحساء 31982 ص ب 5855 موبايلي 00966565445111

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى