اخبار المناطقالثقافيةمحطات

التكيُّف مع دوائر العرض: مدى بُعدنا عن خط الاستواء يُشكِّل طريقة تفكيرنا

صحيفة شفق الالكترونيه /متابعه

في العقد الماضي، حقق علماء النفس قفزةً قُوبلت بترحاب، عندما اتسع نطاق اهتمامهم ليتجاوز التركيز الضيق على أمريكا الشمالية وأوروبا وأستراليا في أبحاثهم، بحيث أصبحت تشمل أشخاصًا من جميع أنحاء العالم. كانت إحدى مزايا ذلك مزيدًا من التبصُّر والفهم للتوزيع العالمي للسمات الثقافية، والاختلافات على مستوى المجتمع في الظواهر النفسية، مثل السعادة والنزعة الفردية والسلوك العدواني. قد تساعدنا زيادة المعرفة بشأن توزيع هذه السمات عبر كوكبنا الأرضي على فهم المنابع الكثيرة لأوجه التشابه والاختلاف الثقافي على نحوٍ أفضل. الحالات ذات الدلالة القوية في هذا الصدد هي الدراسات التي توضح أن البلدان تختلف اختلافًا بيِّنًا من حيث متوسط الشعور بالسعادة، والنتيجة الإضافية التي تُفيد بأن هذا النمط ليس عشوائيًّا بأي حال من الأحوال. في كلٍّ من نصفي الكرة الأرضية، الشمالي والجنوبي، تكون معدلات الشعور بالسعادة أعلى في البلدان البعيدة عن خط الاستواء (مثل الدنمارك أو نيوزيلندا) مقارنةً بالبلدان الأقرب إليه (مثل فيتنام أو كمبوديا).

والأكثر إثارةً للدهشة أننا اكتشفنا أن النمط نفسه ينطبق على النزعة الفردية والإبداع. فمثل السعادة، تميل هذه السمات الثقافية إلى الارتفاع مع الابتعاد عن خط الاستواء. وعند بحثنا للعدوانية، اكتشفنا انطباق النمط العكسي: كلما اقتربت من خط الاستواء، زادت احتمالات إظهارك سلوكًا عدوانيًّا. لتفسير هذه الروابط القوية بين دوائر العرض والثقافة -من السعادة إلى العدوانية وما وراء ذلك- يحتاج العلم إلى مجال جديد. يسعى علم النفس المتعلق بدوائر العرض إلى توضيح أسباب التبايُن الشديد بين المجتمعات، ولماذا يُعد الوقوع على المحور الشمالي/الجنوبي للكرة الأرضية حاسمًا إلى هذه الدرجة.

حرفيًّا، يرسم علم النفس المعنيُّ بدوائر العرض خرائط للخصائص السيكولوجية والثقافية على مستوى العالم. ويقدم وجهة نظر جديدة حول الاختلافات الثقافية وكيف يمكن أن تكون قد نشأت. على سبيل المثال، ربما يرتبط انخفاض مستوى السعادة في المواقع الأقرب إلى خط الاستواء ارتباطًا وثيقًا بقلة فرص التنمية الاقتصادية في المناطق الاستوائية، وبالتالي تدنِّي فرص النمو الشخصي. مثل هذه الرؤى الكاشفة لا تُفيد فحسب في تعرُّف الجذور البيئية للاختلافات الثقافية، ولكنها قد تُفيد حتى في أخذ تلك الجذور البيئية بعين الاعتبار والتقدير.

ومن التفسيرات التي قد تتبادر إلى الذهن على الفور أن المناخ يُشكِّل هذه السمات الثقافية. فبرغم كل شيء، ترتبط دوائر العرض ارتباطًا قويًّا بتبايُن الظروف المناخية، مثل مستويات درجة الحرارة وهطول الأمطار خلال العام. لكن المناخ لا يصلح كتفسير وحيد أو حتى أولي؛ لأنه يرتبط بالعديد من العوامل الأخرى، التي تتضمن الثروة الوطنية وانتشار الفيروسات وغير ذلك من المخاطر البيئية والمخاطر الطبيعية، والتي قد يُسهِم أيٌّ منها أو جميعها في سمة ثقافية معينة مثل السعادة. ما نحتاج إليه إذًا هو منظور عالمي يركز على الجوانب الرئيسية للبيئة الطبيعية أو البيئة البشرية التي تتشكل بفعل المناخ والعوامل ذات الصلة. يسعى هذا المنظور المتمحور حول دوائر العرض إلى فهم السمات الثقافية مثل السعادة أو الإبداع أو النزعة الفردية استنادًا إلى البيئة العالمية -الإيكولوجيا العالمية- التي تمثل تحديات للأفراد والجماعات التي تُشكِّل هذه السمات وتُعززها. وعلى حين يتنامى المنظور الإيكولوجي في علم النفس، نجده غير موثق جيدًا في الأدبيات. لذا تصبح بعض الرسوم التوضيحية مفيدةً في هذا الصدد.

أظهرت دراسة بحثية أنه في البلدان البعيدة عن خط الاستواء، يكون لدى الناس على الأرجح ثقافةٌ تدور في فلك الساعة، حيث تعلو قيمة الانضباط، إضافةً إلى إعلاء قيمة الوقت والتخطيط بوجه عام. مقولة “الوقت من ذهب” تُسلط الضوء على ثقافة الساعة هذه. وعلى النقيض من ذلك، يتراجع التركيز على الوقت في الدول القريبة من خط الاستواء، ويزيد التركيز على أهمية حدثٍ ما بينما تتكشف معالمه. وأبلغُ ما يُعبر عن الثقافات التي تدور في فلك الأحداث في هذه الدول أقوالٌ مثل “امنح الوقت مهلة” (“Darletiempo al tiempo“) في المكسيك، أو “أي موعد بتوقيت ترينيداد” في جمهورية ترينداد وتوباجو، وهي دولة أقرب إلى خط الاستواء من المكسيك. والتفسير الإيكولوجي لذلك أن الوقت والتخطيط يستحوذان على تركيز أكبر في الثقافات ذات المؤثرات الموسمية الكبيرة والموقع الأكثر بُعدًا من خط الاستواء، حيث يحتاج المرء إلى خطة للموسم المقبل (على سبيل المثال، التخطيط الموسمي في الزراعة والاستعداد لمواسم الشتاء الباردة). أيضًا، قد تكون إمكانيات الإنتاجية الاقتصادية أعلى لدى دول واقعة في تلك المناطق، وتتطلب الأنشطة المرتبطة بهذه الإنتاجية تخطيطًا واهتمامًا كبيرًا بالوقت.

ثمة أمثلة أخرى توضح أن اختلافات الموقع الجغرافي فيما يتصل بدوائر العرض، حتى داخل البلد نفسه، ترتبط بالثقافة. فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة بحثية أُجريت في الريف الصيني أن الأشخاص الذين يعيشون في المناطق الجنوبية التي يُنتَج فيها الأرز تكون لديهم نزعة جماعية أقوى بينما تضعف لديهم النزعة الفردية، مقارنةً بمَن يعيشون في المناطق المنتجة للقمح في الشمال. وأشار الباحثون إلى أن مزارعي الأرز يزيدون مستوى المنفعة الاقتصادية من خلال عملهم معًا، في حين يمكن لمزارعي القمح (في أغلب الأحيان) أداء عملهم منفردين. وبالعودة إلى السؤال الذي تطرحه النتائج التي استهللنا بها هذا المقال: كيف يمكن أن نفسر ارتفاع مستويات السعادة والإبداع والنزعة الفردية وانخفاض مستوى العدوانية في البلدان الأكثر بُعدًا عن خط الاستواء؟ كشفت تحليلاتنا عن أهمية تفسيرين إيكولوجيين: الأول هو الثروة. الدول البعيدة عن خط الاستواء هي أيضًا الأكثر ثراءً في المتوسط​​، إذ توفر فرصًا أكبر للتعليم، إلى جانب الاستقلالية والنمو الشخصي، وتلك سمات تتعلق بالسعادة والإبداع والنزعة الفردية. وتكون احتمالات الصراع من أجل البقاء أقل مقارنةً بالاحتياجات أو الشواغل الأقل إلحاحًا، وهو ما قد يساعدنا في فهم السبب وراء ضعف السلوك العدواني (إزاء الأفراد الذين لا ينتمون إلى الجماعة نفسها في أغلب الأحيان) في البلدان الأكثر ثراءً. أما التفسير الثاني فهو التهديدات الطبيعية، سواء من مسببات الأمراض (مثل الملاريا)، أو الحيوانات السامة (مثل الثعابين)، أو الأخطار الطبيعية (مثل الفيضانات أو الجفاف(. وقد لا يؤدي مثل هذه التهديدات إلى الحد من السعادة والإبداع فحسب، بل يُعزز أيضًا ميل الأشخاص المنتمين لجماعةٍ ما إلى حماية أنفسهم من هذه المخاطر، ربما بشيء من السلوك العدواني تجاه الجماعات الأخرى.

هزاع السهيمي

مؤسس صحيفة شفق الالكترونية المدينة : جدة الايميل : [email protected] الجوال : 0552355833

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى