الثقافيةلقاءات

البريكي في ديوانه “موجٌ طائشٌ في الرمل” يهدي دمعه للكائنات

الاحساء – زهير بن جمعه الغزال

وسط أجواء احتفائية وحضور كبير، وقع الشاعر محمد عبدالله البريكي مدير بيت الشعر في الشارقة، في دار موزاييك للدراسات والنشر، المشاركة في معرض الشارقة الدولي للكتاب في الدورة 43/2024 مجموعة من دواوينه الشعرية التي صدرت عن الدار، وهي الليل سيترك باب المقهى “الطبعة الثانية” و مدن في مرايا الغمام، و ديوانه الأخير “موجٌ طائشٌ في الرمل” الذي ضم مجموعة من القصائد العمودية والتفعيلة، وعالجت الكثير من الهموم والقضايا التي تهم الذات وتسبح في فضاءات المدن، وتقترب من أوجاع الإنسان وعذاباته، متخذًا من الرمز وسيلة للوصول إلى مدن عامرة بالشعر ودهشته، فهو منذ إهداءه يؤنسن الكلمات، ويخاف عليها خوف الوالدة على ولدها من أن يصاب بأذى، ويدعو أن تعامل كلماته برفق، وأن تضمها الأهداب لا أن تدوسها الأحذية، في صورة جعلت الحروف رمالًا، مما يدلل على ارتباطه بالأرض التي هي أساس النشأة ومنتهى البقاء المؤقت، حيث يقول:
حروفٌ تطيشُ على الرملِ
لا تضعوا فوقها الأحذيةْ
لملموها بأهدابكمْ
واتركوها بسلّةِ إحساسِكُمْ
إنّها أُغْنِيَةْ.
يمتد الديوان على نحو 140 صفحة من القطع المتوسط، جامعًا بين تسعٍ وعشرين قصيدة تتنقل بسلاسة بين العمودي والتفعيلي، لتفتح للقارئ نوافذ وبوابات تعبر به إلى عوالم شعرية نابضة. يستهل الشاعر هذا العمل بإهداء عميق يمنح الكلمة بُعدًا إنسانيًا نابضًا بالحياة، داعيًا إلى احتضانها بحنان الأهداب لا قسوة الأقدام، لتصبح الكلمة في شعره جسرًا يربط الروح بآفاق الإحساس ومرآةً تعكس أوجاع الإنسان وأفراحه. بهذا، يشكل الإهداء مدخلاً فريدًا يهيئ القارئ للانغماس في عمق التجربة الشعرية التي يحملها الديوان.
أظهر الشاعر محمد عبد الله البريكي في قصيدته “في الطّريق إلى عَرَفَة” رحلة روحانية تعبر عن الصبر والمشقة التي يتحملها الإنسان في طريقه للقاء روحي، وتفتتح هذه القصيدة ديوان “موجٌ طائشٌ في الرمل” كما لو كانت دعوة للقارئ إلى التأمل في مسار الحياة، وتحدياتها التي تتجسد في الصور الرمزية المؤثرة التي تعكس صراع الذات وأملها بالوصول إلى النقاء والتطهر، حيث يقول:

كَمَنْ يَجوعُ ولا يَلْقى سِوى حَشَفَةْ
يَلوذُ بالصَّخْرِ لَكنْ لَمْ يَبِعْ شَرَفَهْ

مَضى بِهِ اللَّيْلُ.. لا يَدْري بِهِ أَحَدٌ
ودَمْعُهُ رُغْمَ طولِ اللَّيْلِ ما عَرَفَهْ

وكانَ بَيْنَ صَباحٍ مُظْلِمٍ غَدُهُ
وبَيْنَ لَيْلِ الرَّجا مُسْتَوْطِناً أسَفَهْ

يُقَدِّمُ الحِبْرَ لِلْأَوْراقِ مَنْفَعَةً
لِكَيْ يَخُطَّ عَلَيْها فِكْرَةَ الأَنَفَةْ

وهَيّأَ الجَوَّ والأَفْكارَ ثُمَّ بَدا
يُكاشِفُ الوَقْتَ لَكِنْ غابَ ما كَشَفَهْ

وقالَ: رُبَّ ظَلامٍ يَنْجلي بِضِيا
كَيْ يَتْرُكَ الجائعُ المَهْمومُ مُعْتَكَفَهْ

يصوغ الشاعر محمد عبد الله البريكي لوحةً تمتزج فيها مشقة الروح بعزيمةٍ لا تنكسر، ويجوع الإنسان إلى معنى يسدّ رمق روحه، لكنه لا يساوم على شرفه، متمسكًا بثبات الصخر وعزله، وأنارت أبياته رؤية عميقة تمزج بين الصبر والرجاء، ورسم لنا لوحةً تمتزج فيها مشقة الروح بعزيمةٍ لا تنكسر، ثم جاءت بعدها قصيدة “سربٌ على الشط” حيث ينسج الشاعر لوحات من الطبيعة والحياة، حيث يتناغم الموج مع الغمام كعِقدٍ يلتف على الأعناق، ويتهادى السرب على الشط برفق الريح كرقصة موج خجولة.
وتطلّ علينا قصيدةُ الديوانِ “موجٌ طائشٌ في الرملِ” حاملةً بين سطورها رحلةٌ من الكلمات العميقة التي تتنقل بين مشاعر العشق والألم، إذ تحمل بين طياتها نبضات شوقٍ وأوجاعٍ تتسابق عبر الصور الشعرية التي تلامس القلوب، فالقصيدة تتموَّج بين حروفها كالموج الطائش في الرمل، تحمل مع كلّ نبضة من نبضاتها شجنًا لا ينتهي، لكنَّها تُحاكي أيضًا الفرح العذب الذي يشبه نسمات الحياة الطيبة، موضحا ذلك في قوله:

لا عِلْمَ لي بالأرضِ، عَنْ دَوَرانِها
وَعَنِ استدارتِها وَعَنْ طَيَرانِها

لا عِلْمَ لي إلّا بِأنَّكِ طائرٌ
غَنّى لفرحَتِنا على أغْصانِها

فَتَنَقَّلي فوقَ السنينِ بِخِفَّةٍ
كالقوسِ حينَ يَمُرُّ فوقَ كَمانِها

أو كالفراشةِ حينَ تَحْضُنُ زهرةً
رَقَصَتْ عُطورُ الشَّوْقِ في بُسْتانِها

لا يعرف الشاعر شيئًا عن دوران الأرض أو طيرانها، فهو يكتفي بمعرفةٍ واحدة هي وجودها وهو العشق، الذي يتجاوز الزمن والمكان، كطائرٍ يغني على أغصان الحياة أو فراشةٍ ترقص على زهرة الحب، ويتنقل بين مشاعر الحزن والحب في تناغم رقيق، يعكس الأوجاع والأمل في قلب واحد، ويذوب الشاعر في البُنِّ المعتق، حيث الأوجاع تنبض بين طياته، تعكس صرخات الأطفال ومعاناة الأسر، لكنه رغم الآلام، يوزع البسمة على الوجوه الخائفة، داعيًا إلى جمال الرقة وسط الحزن، فيتنقل بين مدن العرب المدمرة، بغداد والشام والأندلس، ليهمس في أذن التاريخ، يروي مآسي الزمان في صمتٍ عميق، فيقول:
مِنْ غائِبٍ أَكَلَ الزَّمانُ زَمانَهُ
فَرأى بِقَرْيَتِهِ حنينَ زَمانِها

وأتى لِأُمٍّ كَمْ تَشَقَّقَ وَجْهُها
دمعاً وألْقى الشَّوْقَ في أحْضانِها

مِنْ وَجْدِ روحٍ ما التَقَتْ بِبِلادِها
فَتَقَطَّعَتْ تَبْكي على أوطانِها

مِنْ حُزْنِ أنْدَلُسٍ على غرناطةٍ
فالدَّمْعُ مُسْتَلْقٍ على أجفانِها

مِنْ وَجْهِ دجلَةَ وَهُوَ يستسقي ثَرى
بغدادَ وهيَ تموتُ من أحزانِها

ممّا جرى للشامِ وهيَ بمجدِها
لتراهُ مصلوباً على جدرانِها

مِنْ أيِّ موجٍ طائشٍ في البحرِ يأ
تي للرمالِ يذوبُ في شُطْآنِها

 

وفي هذا السياق، تأتي قصيدته “حشود في المحرقة” لتكون مرآة تعكس معاناة الوعي الجمعي الذي يغرق في متاهات الضياع، ففي هذا العمل الجديد، يكشف الشاعر عن رؤيته العميقة للحالة الإنسانية التي تتأرجح بين الحزن والواقع المظلم، حيث المجتمع المزدحم بالمفارقات والمجهول يواجه مصيره المحتوم. وهذه القصيدة، بتوظيفها للرمزية والتشبيه، وتُصور الازدحام كرحلةٍ في عالمٍ من الأوهام، حيث تتسلل قوى خفية، لتقود البشر نحو الهلاك، كقطيعٍ يساق بلا وعي نحو المجهول، ويظهر ذلك في قوله:
إذا أُغْلِقَ القلبُ يا صاحِبي
فالمّدى سَوْفَ يُصبِحُ قنّينةً مٌغلقَةْ
أتُرى.. كُلّما اتَّسعَ الشارعُ
ازْدَحَمْتْ فيهِ أضلاعُهُمْ
وهي تَحْمِلُ جُمْجُمةً لِلعُبورِ
وتَحْمِلُ للشّارعِ المِحْرَقَةْ

كيفَ تَمْضي الحُشودُ بلا وَعْيِها؟
هل يُحرِّكُها ماردٌ لا يُرى؟
وَثَنِيٌّ أرى الطَّقْسَ
يَعْبُرُ تَحْتَ قِبابٍ مُؤَثَّثَةٍ بالحَجَرْ

بينما يستعرض الشاعر في قصائده ملامح حياته وتجاربها المختلفة، تتنوع الصور والمفاهيم لتتسلسل في تدفق فلسفي عميق، يتنقل بين الحكمة والتعلم عبر الزمن. وفي هذا السياق، تظهر قصيدة ” تجارب” كحلقة وصل بين التجارب الإنسانية العميقة والتفكير الفلسفي، وتجسد فلسفة الشاعر في الحياة، حيث يستعرض المفاهيم الإنسانية العميقة المتعلقة بالمعرفة، والتعلم، والوجود، ويتضح ذلك في قوله:
قناعتُنا لَيْسَتْ نهايةَ ما نَرى
وتَجْرِبةُ الإنْسانِ أجْمَلُ بالصَّقْلِ

بَذَرْتُ سُطورًا في الحَياةِ كثيرةً
فَمِنْها اقْتناهُ البَعْضُ والبَعْضُ في حَقْلي

ومِمّا اقْتناهُ الفِكْرُ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهِ
تَعَلّمتُ أنَّ المِثْلَ يُضْرَبُ بالمِثْلِ

إذا اختلَطَتْ كَفُّ الكَريمِ بِمَنِّهِ
فخيرٌ لَهُ من مَنِّهِ صِفةُ البُخْلِ

ومَنْ كانَ ذا رأيٍ يَراهُ مُقَدَّسًا
عَلَيهِ بأنْ لا يَطْرحَ الرَّأيَ أو يُدْلي

ومَنْ يَتَّعِظْ بالغَيْرِ يَنأى بنفسِهِ
ومن يَتَّعِظْ بالنّفْسِ تُشْقيهِ بالوَحْلِ

وليسَ كبيرُ السّنِّ صاحبَ ميزةٍ
إذا لَمْ يَكُنْ مِنْ عِلْمِهِ العِلْمُ بالفِعْلِ

في هذه الأبيات، يقدم الشاعر عبر تنقلاته بين تجاربه الشخصية وفلسفته في الحياة مزيجًا من الحكم المستخلصة من مسيرته ومن تراث أسلافه، ليُظهر في كل سطر نضوجًا فكريًا ووجدانيًا يشهد على رحلة طويلة من التأمل والنضج الروحي والعقلي، فجمعت القصيدة بين النصيحة والتوجيه والحكمة التي تستند إلى فهمٍ عميق للمجتمع، والزمان، والعلاقات الإنسانية، مُظهرًا سعي الشاعر للتعلم من الحياة بوعيٍ متزايد ومرونة روحية.
أما في قصيدة “الشعر” يذهب البريكي إلى أفق بعيد يستعرض من خلاله علاقة الإنسان بالشعر، وموقعه في سياق الزمن والحياة، فيصوّر الشعر في هذه الأبيات كأنه كائن حي يتنقل بين الأزمان والأماكن، وتلهب كلماته الذاكرة وتحرك المشاعر، فيقول:
يَعُدّونَهُ سَقْطًا قديمًا، وقائِلُهْ
على طَلَلٍ يَبْكي وتَبْكي رواحِلُهْ

وها هُوَ في القاعاتِ يُدْلي بِدَلْوِهِ
ومِنْ وجَعِ الألْحانِ تَشْدو بلابِلُهْ

إذا ما أتى أرْضًا وحَدّثَ رَمْلَها
تَقولُ لنا الأنْحاءُ: هذي مَنازِلُهْ

وما كانَ فينا عابرًا أو مُغامِرًا
ولَمْ يَكُنِ التَّرْحالُ عنّا يُشاغِلُهْ

أقامَ مَقامَ الرّاسياتِ وما انْحَنى
لِهَمٍّ وما اهْتزَّتْ لريحٍ مَفاصِلُهْ

فيُعد الشعر تجسيدًا عميقًا للروح وتفاصيله، فلا يقتصر على الكلمات فقط، بل يشمل المقاومة، التحدي، والجمال الأبدي، فالشعر هنا ليس فقط وسيلة تعبير، بل هو الكائن الذي يعيش في قلب كل زمان ومكان، ويرفض أن يندثر أو أن ينسى.
ديوان محمد البريكي يشهد على شاعرٍ تنسج رؤاه في لوحات فنية تنبض بالجمال والاحتراف، حيث تُحاك كلماته بحذر وتأنٍ، مُراعِيًا الاقتصاد اللغوي في اختياراته، ومُحاكيًا صور بيئته بكل دقة وإبداع، فجاءت قصائده مشبعة بالإحساس الصادق الذي ينبع من عمق قلبه، يعكس غربة الشاعر في عالم متغير، وترحال لا يتوقف، حيث يلتقي بأمكنة شتى تركت بصمات عميقة في ذاكرته وشعره. من النيل الذي يتذكره بحنين، مرورًا بشاطئ “فكتوريا” الذي يحتفظ به في ذاكرته كموجة عاطفة، وصولًا إلى مصر التي تسكن روحه في كل حرف ينسجه، ثم إلى أرجاء موريتانيا والشام، ليعود في النهاية إلى نخلةٍ تلامس البحر اليمني، حيث تلتقي أمواج الزمان بالطمأنينة في روح الشاعر الذي يجد في البحر سكنًا وراحة، تُنعش ذاكرته وتجارب حياته.
والشاعر محمد عبد الله البريكي يعمل مديرا لبيت الشعر بالشارقة، ومديرا لمهرجان الشارقة للشعر العربي، ومدير تحرير مجلة “القوافي” التي تصدر عن بيت الشعر بالشارقة، قدم برامج تلفزيونية منها: “ديوان العرب” لتلفزيون الشارقة، أشرف على ملاحق ومجلات شعرية، كما أسهم في مجال التحكيم في المسابقات الشعرية.
صدر له “نبطي”: ديوان “زايد”، “همس الخلود”، “سكون العاصفة”، “ساحة رقص” وفي شعر فصيح له: “بيت آيل للسقوط”، ” بدأت مع البحر”، “عكاز الريح”، “الليل سيترك باب المقهى”، “مدن في مرايا الغمام”، “متأهبًا للعزف”، و “موجٌ طائشٌ في الرمل”، كما صدر له: كتاب “على الطاولة” قراءات في الساحة الشعرية الشعبية، “غواية الحب الأبدي” كتاب الشارقة، كتاب بيوت الشعر مشاهد وإضاءات مجموعة من الكتب الخاصة بمهرجان الشارقة للشعر العربي شارك في العديد من المهرجات الشعرية، وكتبت عن شعره مجموعة من الدراسات ورسائل الماجستير والدكتوراه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى