
في ذاكرة المدن، تبقى هناك وجوه تُخلَّد بحكاياتها، وأرواحٌ تأبى أن تذوب في زحام النسيان. هكذا هو العم عبدالله المريسل، أو كما يعرفه أهل الدمام بـ “أبو سعود”، رجل حمل مدينته في قلبه كما يحمل الأب طفله، فصار ذاكرة حية لها، يحفظ شوارعها وأحياءها، أسماء ناسها وأحلامهم، أفراحهم وتحولات الزمن الذي لم يسرق منه عشقه الأول: روح الحياة البسيطة!
لكن، ماذا لو كانت ذاكرة “أبو سعود” مرآة تعكس أكثر من مجرد أحياء الدمام؟ ماذا لو كانت شاهدة على التحولات العميقة في وجدان المجتمع؟! تمامًا كما تغيرت الدمام، تغير رمضان، فهل ما زالت روحانيته كما كانت؟ هل بقيت لياليه مغمورة بالأنوار الخافتة، برائحة القهوة العربية، وأصوات الأمهات وهن يعددن السحور؟ أم أن زمن الشاشة قد سرق الزمن الجميل؟!
في الماضي، كانت الأحياء تتنفس برائحة رمضان. لا تحتاج إلى تقويم لتدرك أن الشهر الكريم قد حل، فهناك لغة صامتة تسري في الشوارع: أنوار الفوانيس، أصوات المارة، العابرون الذين يبدون أكثر هدوءًا، والأطفال الذين ينتظرون بلهفة موعد الإفطار وكأنهم في طقس مقدس لا يتكرر إلا مرة واحدة كل عام. رمضان في ذاكرة “أبو سعود” لم يكن مجرد شهر، بل كان حالة روحية تتغلغل في تفاصيل الحياة. في الدمام القديمة، كما في بقية مدن الوطن، كان الليل يمتد بين جلسات السمر حول الأحاديث الهادئة، وقراءة القرآن، والتأمل في المعاني العميقة للصيام. كانت البيوت تفتح أبوابها للجيران، والمائدة تمتد لتشمل الفقير قبل الغني، وكان كل شيء بسيطًا لكنه ممتلئ بالدفء!
كان الإنسان أكثر قربًا من ذاته، وأكثر صدقًا مع روحه. لم يكن هناك شيء يسرق هذا الصفاء، لم تكن هناك برامج تافهة تستهلك الوقت، ولا دراما مفتعلة تغرق العقول في صراعات لا تعنيها، ولا محتوى يفرغ رمضان من جوهره ليحوله إلى مجرد “موسم عابر”. لكن، كما تغيرت المدن، تغير رمضان!
في زمن الدمام البسيطة، كان المجتمع يحتفي برمضان كأنه ضيف عزيز يجب أن يُحاط بكل أشكال الحب والاحترام. أما اليوم، فقد أصبح رمضان ضيفًا في بيته، يزاحمه صخب المسلسلات والبرامج السطحية والهابطة! وتستنزف لياليه شاشات لا تقدم سوى الاستهلاك بلا روح. المشكلة ليست في وجود البرامج، بل في الاستحواذ. كان الترفيه يومًا ما مجرد مكمل للحياة، وسيلة لإضفاء البهجة، لكنه اليوم أصبح هو الهاجس، فيما تراجعت العبادة إلى الهامش.
أين ذهب ذلك الشعور العميق بالخشوع عند سماع الأذان؟! أين ذهب ذلك الانتظار المشوق لصلاة التراويح وكأنها رحلة نورانية؟! أين ذهبت تلك اللقاءات العائلية التي كانت تمتد حتى السحور في دفء الأحاديث؟! ونحن نعيش أجواء اليوم الثاني من “مهرجان سوق الحب ٥”، ضاعت البهجة، وغابت الابتسامة، وكثر الزيف!!
لقد أصبح الوقت رهينة المحتوى المعلب. ما إن ينتهي أحد المسلسلات حتى يبدأ الآخر، وما إن تنتهي البرامج المسائية حتى يبدأ عرض جديد، وكأن رمضان لم يعد سوى مهرجان إعلامي تتصارع فيه القنوات لجذب المشاهد بأي ثمن. وفي خضم هذا كله، ضاعت الروحانية، ضاعت الهوية، وضاعت اللحظات التي كانت تجعل لرمضان مذاقه الفريد.
السؤال ليس رجوعًا إلى الماضي، ولا حنينًا ساذجًا للأيام الخالية، بل هو تأمل في المعنى. هل يمكن أن نستعيد جوهر رمضان وسط هذا الضجيج؟! الجواب لا يحتاج إلى تنظير، بل إلى قرار شخصي. من اختار أن يكون مثل “أبو سعود”، وفيًا لذاكرة الزمن الجميل، قادرًا على الاحتفاظ بإنسانيته وسط تغيرات الحياة، سيجد طريقه. ليس المطلوب أن نهجر الوناسة تمامًا، لكن المطلوب أن نضعه في مكانه الصحيح، أن يبقى الهامش هامشًا، والمركز مركزًا. رمضان ليس موسمًا للعرض الأول، ولا مسابقة لعدد الحلقات التي يمكن مشاهدتها، بل هو فرصة لإعادة التواصل مع الذات، مع العائلة، ومع الله. وإن كانت شاشة التلفاز قد سرقت منا الكثير، فلا يزال لدينا شاشة القلب، تلك التي لا تُطفأ، والتي تعرض لنا دائمًا الحقيقة التي نحاول أن نتجاهلها.
العم ” عبدالله المريسل ” لم يكن مجرد رجل عاش في الدمام، بل كان شاهدًا على تحولاتها. ذاكرته لم تكن مجرد سرد للأحداث، بل إحساس بالأمانة تجاه مدينته، تمامًا كما يجب أن نكون أمناء على روح رمضان. فكما تستحق الدمام أن تُكتب قصتها بصدق، يستحق رمضان أن نعيشه بصدق. أن يكون كما كان ذات يوم: شهرًا يتطهر فيه الجسد، كما تتطهر الروح، وكما تتطهر المدن من غبار الزمن. وهكذا، في ذاكرة الزمن الجميل، يبقى رمضان خالدًا، كما تبقى الأرواح التي ترفض أن تذوب في زحام النسيان!