من محافظة جدة مسرحية (ما تبقى من حلم) تروي شغف الشباب بالمسرح احتضنتها أكاديمية نفيسة شمس وبإشراف الكومة للإنتاج الفني
روح السعودية، ولا تروح بعيد، فعاليات جدة، متعة الترفيه، على أنغام هذه الشعارات لفعاليات الصيف في السعودية بدأت تتنافس الجهات الحكومية والخاصة الترفيهية والثقافية والرياضية وغيرها، لتجذب جمهورها من المواطنين والمقيمين والسياح والزائرين نحو ألوان الفن بمسارحها، حيث تشكلت أجمل اللقطات واللحظات للفنون والأداء الذي يتسابق له رواده والمختصين والشغوفين فيه، فهم شركاء النجاح لهذه المواسم، وما تترجمه من ثقافة عصرية تناسب الأذواق والجماهير المنسجمة لمواكبة الجديد منها، والمسرح رافد قوي جاذب محفز ينسجم مع جميع الفعاليات لتتوافد له المواهب بكل اللغات، وقد انتقلت هيئة المسرح السعودي لقفزات تواكب هذا المشهد الثقافي والفني بتنوع برامجها التثقيفية والتدريبية، وتجذب لساحتها صوت الشباب الشغوف للتمثيل والأداء والإخراج والتأليف والإنتاج، باحتضانهم ضمن برامج تثقيفية نقلت المجتمع نحو رؤية جديدة أكثر انفتاحا واطلاعا على المسرح، وتفاعلية تجريبية لعشاقه من الممثلين والمؤدين لتأتي البشائر بانجذاب الأطفال والشباب وتشهد المسارح روح المنافسة بالعروض المنظمة بجهود وتنسيقات مؤسسية أو بجهود فردية تطوعية مصرحة من الجهات الثقافية المعتمدة، إن هذه اللغة التشاركية أثمرت بين الأفراد والمؤسسات في تنظيم عمل مسرحي معنون بـ(ما تبقى من حلم) أقيم في محافظة جدة لتكون شاهدة في تفسير رحلة شغف الشباب بالمسرح السعودي.
وما أجمل أن يعرف الانسان ذاته ويتفهم مكانه وسط نص يحمل التناقضات والانفعالات بكل ألوانه التعبيرية المسرحية وكأنه مشهد حاضر أمام عينيه، يعيش مع فئة بمجتمعه لعبة التحايل المتناقضة بين الجد والهزل، والكومة من الورق المنثور، وسلطة طائشة تتزعم المشهد وفي دهاليزه تطيش بين كومة خيباته، ليتمثل لنا نصا منحرفا عن منطق الحيرة، ومنقلبا على استخفاف قوانين الواقع بمنهجية مغايرة وبعمليات استهزاء بالتفسير والفهم والحوار والتفاعل وبمعايير لعب وتحايل تبحث عن الذات، وانتاجها يواجه الخذلان.
ارتسم هذا المشهد في مسرحية (ما تبقى من حلم) التي أقيمت يومي الخميس والجمعة الموافق 20-21 يناير 2023م على خشبة مسرح أكاديمية نفيسة شمس بمحافظة جدة، وهي من فكرة إبراهيم بامحرم، وتأليف وإخراج طلال المالكي، إنتاج الكومة للإنتاج الفني، إشراف وتنسيق عام زياد محمود الذي نجح في تحويل المشهد للنور واستنهاض همة عدد من الممثلين الناشئين والمتمرّسين وهم: د.حنان عنقاوي، محمد أوس، مؤمن زيدان، سلطان الجفري، أحمد مصطفى، صالح بامحرم، أفراح العلي، محمد وزان، عبير عطار، علي المعلم، نهى نبيل، زياد محمود، آية، سراج عمر، لينا، بلال بنجابي، عبيد الصحفي، أحمد تركستاني، أمجد، أمينة السوداني، بالإضافة لمساعدي الإخراج: عصام حوباني، اريج حكيم، عبدالرحمن حكيم، عبدالرحمن القحطاني.
فكرة المسرحية: تشخّص حال الممثلين ومؤدي الأدوار عند كل عمل مسرحي، وهم يعيشون صورة مشتتة مع قائدهم (المخرج المسرحي) الذي يظهر في تناقضات إيجابية مرة وسلبية مرات عدة، وهم يوجهون له أدوات النقد بشدة، لأنه أدخلهم في أزمة ملاحظات ومراقبات نفسية وانتقادات لبعضهم البعض، وحيّرتهم في اتخاذ قرار، بين سلطة المخرج السيئة وحبهم للعمل المسرحي والرقي بأدائهم، فجاءت مشاهد المسرحية جامعة للتناقضات المحيرة لتوصل للمتلقي فلسفة البشرية في تصعيد المواقف البسيطة، وذلك عبر أداء محبوك في بساطته الاعتيادية، مع حداثة تاريخ الممثلين وواقعهم المسرحي الجديد المشتت بلا تنظيم وتحسين من مدرسة قيادية تصقلهم، فجاء احتكاكهم بالمخرج المتواضع خبرة والمتزعم بسلطة واهية اندمج معهم الخيال بالوهم، ليتواجد الوعي والفطنة والمعرفة كتحول درامي ونقطة حاسمة في تحريك الممثلين من كونهم نقطة داخل نص فيه أحلامهم، لتتصاعد قيمتهم بالتشارك بينهم.
في نص مسرحية “ما تبقى من حلم” يظهر البعد الزماني بفلسفة واقعية تفسر هذا البناء التاريخي الممتد لعشاق المسرح ليجعل بعض أفراده يبلغون بمعالمهم المتناقضة اليأس أو الإبداع، لتتشكل بين دهاليزه رسالة وعي لهدم العوالم الضائعة التائهة ورسم خارطة طريق بارعة، فلغة التمرد بين الشخصيات لم تتجاوز جملة (وين المخرج) بركان ثورة خامدة سيطرت عليها أصوات الخضوع والخوف مع أدنى ردة فعل من (مساعد المخرج) أو (الحكيم المجنون)، وتشتد وتتراخى المسرحية بلغة صراع وحوار بسيطة عامية متعددة اللهجات وتقفز الحوارات باستخفاف وسخرية بعبارات تدهش الجمهور وتثير تفاعله، خاصة مع المشهد البدوي وقصة الصراع الأزلي للزواج التقليدي، وخرافات ملوك الجن وحواراتهم الماكرة، للبحث عن المعنى في مشهد يتجدد فيه اللقاء المباشر دون الاقتراب من جدية العمل المسرحي لتغيير ثقافة العمل وجودة تنفيذه، وهنا يظهر(أحمد مصطفى) المجنون الحكيم ليصحب براد الشاهي ويجعل للمشاهد تجذرا قريبا للذات يعمل على تحقيق الانصهار بين المشهد والجمهور، تارة برجاحة عقله وتارة بفكاهته المصحوبة بطعم الشاي، وتأتي (العرافة) لتكشف السر عن كذبة (أساطير الجن) وتحكمهم بحراك الممثلين المتهالك استخداما مع أكثر مشاهد الفن المستهلكة، وتقرّبهم لبراهين الحجة التي أحرجت أصحاب القرار والذي كابده كثيرا (مساعد المخرج) (مؤمن زيدان)، فالتغير نحو الجدية هنا من (مساعد المخرج) كان في حيرة واضحة من غياب المخرج وتتبع الممثلين، مما دفعه ليستخدم كردة فعل مع بعض الغباء والاحراج للمتسائلين بعبارة (وين المخرج) مستخدما لغة السخرية ليراهن كصاحب سلطة مؤقتة بفضح أسرار حقيقة (المخرج) للممثلين الباحثة عن جدية المشهد المسرحي، وبذكاء يشغلهم في حيرة رمزية اسمه (رضوان وصفوان) رغم أنهم لا يملكون منه سوى ذلك الاسم الذي يرشدهم لاكتمال أدوارهم المسرحية.
وهكذا نجد اتجاه النص الخطابي للمسرحية يوظف أدوات جديدة للذات وما تملكه من وهم وغرور تجعل الانسان يبسط راحته لتنخرط ذاته في لعبة الوعي الأخلاقي للفن بين ضمان استمرارية الذات في أوهامها للفعل والأداء والشعور التراجيدي بالعذاب والألم للاستخفاف بقدراتها لتقوم بين شغل التأويل ومعية الإقرار وهنا تفتقد الذات القرار.
وهكذا نجحت فلسفة التأويل في بساطة تركيبها عند (طلال علي) في الاستماع إلى الحد الأقصى من الأصوات الصامتة المنبعثة من أفراد مجتمع (ما تبقى من حلم) لتصبح أصواتا منبعثة من نفس المجتمع لاعتقادها إمكانية اللقاء بالصوت الحاسم والسلطة المحتوية لمواهبهم، كما نجح المشرف العام على المسرحية (زياد محمود) وفريق عمله الفني في تشكيل لوحة عرض مسرحي ببساطتها وهدوء إضاءاتها نقلت الحدث للجمهور بخفة تلامس طبيعة اللحظة ليتشارك الجميع اللعبة في البحث عن المخرج، وتستمر هذه الفلسفات وتفسيراتها بين بناء وهدم وتعمير وتخريب، لطالما انشغل الانسان بالإنسان، وسيطرة الأنا وطغت وتمردت، وستمضي الحياة بتناقضاتها والمسرح صامدا في رسم الوعي والجمال.
وفي الختام إن حلاوة الكلام وطلاوته لا تساويان إرسال حوار رشيق أنيق فیّاض بالحركة دون أن يضع ذلك على شخصيات المسرحية نماء ذواتها وتطورها، كونها تمثل للمسرحية مرآة لكل شخص يشاهدها، ويتطور من خلال تصاعد حواراتها، بين دائرتها تدور لعبة الحدث، لذا فإن مثل هذه الأعمال المسرحية البسيطة والتي جمعت أسماء جديدة في التمثيل المسرحي والإخراج حق لأصحاب القرار أن تستديم بينها التشاركية، لرفع سقف هذا الجيل بالهمة والتحفيز والتحسين والتطوير، فيعيش منطقا جديا احترافيا مع أبو الفنون (المسرح) وتأخذ المسرحية عدة مسارات تكرار للعروض، مما يتيح للفريق المسرحي المنتج والمشرف أن يمضي في رحلة التطوير والنهضة بالحراك المسرحي الوطني، وهذه المنظومة الداعمة بكل روافدها سائرة للرقي بالإنسان ليعيد شريط ذكرياته بشكل مكتوب ومرئي ومسموع.