هكذا رفض البرازيليون التلقيح وأحرقوا عاصمتهم!
خلال الفترة ما بين أواخر القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20، عرفت مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية نموا ديموغرافيا سريعا، حيث تضاعف عدد السكان من نحو 500 ألف نسمة ليتجاوز المليون بـ 30 عاما فقط.
ويعود السبب في هذا النمو الديموغرافي اللافت للانتباه، إلى توافد أعداد كبيرة من العبيد السابقين والمهاجرين الإسبان والبرتغاليين والإيطاليين نحو المنطقة، ليظهر بذلك نسيج ديموغرافي غير متناسق بريو دي جانيرو تميّز باختلاف العرقيات والطبقية الاجتماعية.
جاء هذا النمو الديموغرافي الذي شهدته ريو دي جانيرو ليشكل عقبة أمام مشروع “ريو تتحضّر” الذي جاء به الرئيس رودريغز ألفيز (Rodrigues Alves) لجعل المدينة منطقة حضارية وعصرية شبيهة بكبرى المدن الأوروبية كباريس ولندن، حيث اتجه الأخير من خلال برنامجه هذا لاستقطاب رؤوس الأموال والمستثمرين الأوروبيين عن طريق منحهم مظاهر مألوفة لهم شبيهة بتلك الموجودة بدولهم. وقد تضمن مشروع الرئيس ألفيز مطلع القرن العشرين، والذي أشرف عليه عمدة ريو دي جانيرو فرانسيسكو بيريرا باسوس (Francisco Pereira Passos)،
برنامجان أساسيان
برنامجان أساسيان كان أولهما معماريا وثانيهما صحّيا، حيث فرض العمدة باسوس جملة من الإجراءات التي أثارت غضب الفقراء بالمدينة فعمد لطرد المتسولين من الشوارع ومنع تنقل الحيوانات كالبقر والأحصنة ووعد بمعاقبة كل من يبصق بالطريق العام.
من جهة ثانية، آمن الرئيس رودريغز ألفيز بضرورة تخليص ريو دي جانيرو من الأمراض والأوبئة المنتشرة بها فأوكل للطبيب والمختص في المجال الصحي أوزوالدو كروز (Oswaldo Cruz) مهمة تحسين الوضع الصحي للمدينة.
وقد اتجه هذا الطبيب المعجب بشخصية لويس باستور لوضع برنامج كامل لتأمين ريو دي جانيرو فأمر بإنشاء فرقة صحية كاملة اتجهت لتجفيف المستنقعات وإبادة يرقات البعوض وتفقد المنازل وهدم تلك التي شكلت تهديدا صحيا أملا في إنهاء انتشار الحمى الصفراء والطاعون، كما طلب من الحكومة تمرير قانون جديد لبدء حملة تلقيح إجبارية ضد مرض الجدري.
مع تمرير قانون التلقيح، عمّت حالة من الفوضى مدينة ريو دي جانيرو حيث روّجت العديد من الصحف، بشكل خاطئ، لخطورة هذا التلقيح وتحدّثت عن ضرورة قيام الإناث بخلع ثيابهن أمام مسؤولي الصحة للحصول على الجرعة وهو الأمر الذي أثار غضب كثيرين ممن اعتبروا الأمر مهينا ومشينا. وقد جاءت هذه الأزمة لتنضاف للعديد من المشاكل الأخرى التي ارتبطت بهدم منازل الفقراء المصنفة بغير الصحية طيلة الفترة السابقة.
لا لقانون التلقيح
ويوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 1904، اندلعت الاحتجاجات بريو دي جانيرو ضد قانون التلقيح الإجباري حيث نظّم المعارضون السياسيون والعمال والنقابيون والفقراء، إضافة لعدد من الطلاب والمنتسبين للأكاديمية العسكرية، أنفسهم ضمن تكتّل أطلقوا عليه اسم Liga Contra Vacina Obrigatória. وقد جاءت هذه المظاهرات أساسا لتبرز جانبا هاما من إهمال الدولة لهذه الطبقات التي عانت على مدار سنين من ويلات التهميش وسط غياب شبه تام للمسؤولين السياسيين.
تدريجيا، تحولت هذه الاحتجاجات السلمية لحالة من الفوضى والاحتقان والشغب حيث عمد عدد كبير من المحتجين لمهاجمة المحلات التجارية ونهب ممتلكاتها وأحرقوا العديد من البنايات والمناطق التي أنشأتها الدولة حديثا كما لجؤوا أيضا لتخريب خطوط الترامواي بريو دي جانيرو وأحرقوا العربات. إضافة لذلك، حاولت مجموعة من السياسيين والعسكريين استغلال الموقف لصالحها فنظمت محاولة انقلابية فاشلة مستغلة انشغال السلطات بالتصدي للعمليات التخريبية.
وما بين يومي 16 و17 تشرين الثاني/نوفمبر 1904، تراجعت أعمال العنف بشكل واضح عقب إعلان الحكومة عزمها التخلي عن التلقيح الإجباري ضد الجدري. وقد تسببت أعمال الشغب التي استمرت لنحو خمسة أيام في مقتل وإصابة المئات من سكان ريو دي جانيرو.
خلال الفترة التالية، واصلت السلطات عملية هدم المنازل غير الصحية مجبرة بذلك سكانها على الرحيل نحو ضواحي ريو دي جانيرو. إضافة لذلك، تم إجلاء أعداد كبيرة من المتشردين نحو مناطق أكري غربي البلاد لتجد بذلك الحكومة المناخ الملائم لمواصلة أعمال تطوير البنية التحتية والمعمارية لريو دي جانيرو. وخلال العام 1909، عمدت السلطات لإقرار قانون التلقيح الإجباري ضد الجدري مجددا بريو دي جانيرو وهذه المرة لم يلق القانون أية معارضة تذكر.