الرضا من أفضل العبادات وأنبلها، ودائمًا بعد العسر يسر، ومن يرضى بما قسمه الله له يعيش سعادة بدون شقاء لأنه سلّم أمره لرب العالمين!!
ومن رُزِق القناعة سوف يحيا
عزيز النفس حرًا ذا سيادة
أصابت ذات مرة عروةَ بن الزبير إصابة في قدمه فقالوا له: “ألا ندعو لك طبيبًا؟” فقال لهم: لا بأس. فقالوا له: نسقيك شرابًا يزول فيه عقلك. فلم يعجبه ذلك وقال: “ما كنت أظن خلقًا يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف ربه”. فوضع المنشار على ركبته اليسرى، فما سُمع له حِسٌّ، فلما قطعها جعل يقول: “لئن أخذتَ لقد أبقيت، ولئن ابتليت لقد عافيت”. بل ولم يترك ورده من القرآن وهو مريض!!
تلك القصة المؤثرة لأحد الصحابة الأجلاء منهجٌ في الصبر على ما كتبه الله و”الرضا بالمقسوم”، لأن الإنسان لن يغير من قضاء الله وقدره، “لأن الله إذا قضى قضاءً أحب أن يُرضى به”، والرضا أن يكون الرجل قبل نزول المصيبة راضيًا بأي ذلك كان، والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة أن يصبر على ما كتبه الله لأن البلاء كرضا الإنسان عند الغنى والبلاء!! لأن الحياة هبة وليست حقًا ومن لم يرضَ بالقليل لن يرضى أبدًا، لأن الأقدار مكتوبة!!
ومن يرضى بما قسمه الله يكون مرتاح البال قادرًا على التعايش مع كل لحظات حياته بكل ما فيها من شقاء وسعادة، لأن لذة السعادة الحقيقية في طاعة الله عز وجل، وفي العبادة، والتوكل على الله عز وجل، يقول الإمام علي بن أبي طالب:
إذا عقد القضاء عليك أمرًا
فليس يحله إلا القضاء
فما لك قد أقمت بدار ذلٍّ
وأرض الله واسعة فضاء
ويكفي من الدنيا ما يقنع الإنسان به، وليس أسوأ من الحظ السيء إلا الرضا به، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا” (رواه البخاري).
ومن خطوات الشعور بالرضا في الدنيا إحساس أهمية ما أنعم الله به علينا من نعم كثيرة، الصحة نعمة، والأمن نعمة، والعمل نعمة، والأولاد نعمة، وكل تلك النعم تحتاج إلى شكر، “لئن شكرتم لأزيدنكم”، وشكر الله بطاعته باتباع أوامره، واجتناب نواهيه أي أن شكر الإنسان ربه على ما أنعم به عليه زاده منها، والشكر طاعة لله عز وجل عن لذة النعيم لزيادة في أسباب الشكر!!
والدنيا دار ابتلاء وأنواع الابتلاء مختلفة، هناك ابتلاء بالتكاليف وهناك ابتلاء بالنعيم، وهناك ابتلاء بالمصائب، وهناك ابتلاء الناس بعضهم لبعض، ورضا الإنسان بما قسمه الله له، يجعل الإنسان أغنى الخلق!
ومن القصص المؤثرة عن الرضا بما قسمه الله ما جاء في الأثر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن تزوجت امرأة اسمها تميمة بنت وهب من صحابي جليل اسمه رفاعة وقد أعطاها حديقة “بستانًا عليه حائط” مهرًا لها. وفي يوم من الأيام حدث خلاف بينهما فطلقها ثلاثًا فبانت منه بينونة كبرى أي لا يحل له أن يراجعها إلا إذا تزوجت غيره وعاشرها معاشرة الأزواج وطلقها أو توفاه الله، لقول الله عز وجل: «فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون» (البقرة: 230)، تزوجت تميمة بعد انقضاء عدتها من الصحابي عبد الرحمن بن الزبير ولم تجد عنده ما كانت تجده من زوجها الأول من حيث متعة الفراش ومعاملة حسنة فكانت تذمه، وتطعنه في رجولته فكان يهينها ويضربها، فالرجل لا يقبل أن تذمه زوجته أبدًا بمثل تلك الأقوال والأفعال وتتهمه زورًا وبهتانًا بالعجز الجنسي لتعود لزوجها الأول. ذهبت تميمة بنت وهب إلى السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها تشتكي زوجها عبد الرحمن وكانت تختمر بخمار أخضر وأرتها خضرة بجلدها من أثر ضربه لها وقالت للسيدة عائشة رضي الله عنها: إن هذا الزوج يعاملني معاملة سيئة وأنا اغتررت بمنظره وشكله وجمال صورته وأريد الطلاق منه. فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله ما رأيت مثل ما يلقى المؤمنات – تعني شدة الإيذاء الذي وقع على هذه المرأة من زوجها ووصفت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ما رأت من أثر الضرب، فذكرت أن جلدها أشد خضرة من الخمار الأخضر الذي ترتديه.
البلاء كأن اتهام الزوج بالعجز: سمع عبد الرحمن بن الزبير رضي الله عنه أن زوجته تميمة ذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكوه فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابنان له من زوجته الأولى، فقالت تميمة للرسول صلى الله عليه وسلم: «أنا كنت عند رفاعة فبتَّ طلاقي فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وأنا معه مثل هدبة الثوب» واتهمت زوجها بالعِنَّة والعجز الجنسي فقال زوجها عبد الرحمن رضي الله عنه مدافعًا عن نفسه: كذبت والله يا رسول الله إني لأنفضها نفض الأديم. والأديم يطلق على الجلد والتشبيه هنا كناية عن كمال قوة الجماع، ولكنها ناشز – وهو امتناع المرأة عن معاشرة زوجها – تريد رفاعة زوجها السابق فبيّن لها صلى الله عليه وسلم إن كان الأمر كما يقول زوجها عبد الرحمن فإنها لا تحل لرفاعة زوجها السابق، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك»، وسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن: بنوك هؤلاء؟ فأجابه: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: هذا الذي تزعمين ما تزعمين من عِنَّته وعدم قدرته على الجماع؟!! فوالله لهم – أي أولاده – أشبه في الخَلق من الغراب بالغراب فاستدل صلى الله عليه وسلم على كذبها في دعواها بشبه الولدين له.
والعبرة في القصة أن يرضى الإنسان بما قسمه الله له، فالفرح في الرضا بتدبير الله لنا، والشقاء والهم والغم كله في تدبيرنا لأننا لا نعلم سر الغيب!!
جرى قلم القضاء بما يكون
فسيّان التحرك والسكون!
جنون منك أن تسعى لرزق
ويُرزق في غشاوته الجنين!