كوبري السعاده
أنا آنسة في الستين .. عشت حياتي الطويلة المريرة كالكوبري الممدود عبر ثلاثة أجيال .. لم أعرف الحب .. و لا الزواج . في العاشرة كنت أحمل أخى الطفل و أغنى له .. و فى الثلاثين كان الطفل قد كبر و تزوج .. فحملت أطفاله .. و الآن و قد كبر أطفال الأطفال .. و تزوجوا .. و بدأت أستقبل على صدرى الهضيم الضامر .. أبناءهم لأعبر بهم السنين الباقية من حياتى . أنت لا تعرف معنى أن تعيش على الشاطئ .. و تقضى فى الحرمان ستين عاماً .. و أنت عطشان .. لا يمكن أن تعرف هذا لأنك لم تجربه .. فأنت رجل . و كان أبى المتوسط الحال يحلم بتريبة أولاده فى الجامعة .. و كان ثمن هذا الحلم بعد أن ماتت أمى أن أظل فى البيت لا أبرحه ..أطبخ و أغسل و أمسح البلاط .. لأوفر ثمن خادمة و طاهية و غسالة و أعاون أبى على تحقيق حلمه الكبير . كنت الثمن الذى دفعه جيلنا من لحمه و دمه .. لتدخلوا الجامعة و تتعلموا .. و تقولوا للعالم .. نحن الرجال . و قد كنت سعيدة بهذه التضحية . كنت أماً عذراء لأجيال ثلاثة تربوا على صدرى . لكنى الأن و قد تغيرَت من حولى الدنيا .. أحس أنى غريبة فى عالم غريب .. عالم ملئ بالثرثرة و الغرور و الحب و الإلحاد و الثورة . بناتى و صبيانى الذين ربيتهم و منحتهم شبابى و عمرى .. ينظرون إلىَّ كأنهم ينظرون إلى تحفة أو أنتيكة .. و يسخرون منى لأنى لا أفهم الوجودية و السياسة و الحب .. و يضحكون علىّ . لقد انتهت دولتى .. و مطبخى الصغير إحتله الطاهى .. و لم يبقى لى سوى البكاء فى صمت إلى جوار النافذة . كنت أطمع فى شئ واحد .. هو التقدير .. و لكن حتى هذا لم أحصل عليه . رد الدكتور مصطفى محمود : أيتها الأم الكبيرة … إن بناتك اللاتي يقرأن في الوجودية .. والسياسة والحب .. لا يفهمن شيئاً من الحب .. ولسن جديرات بأن يكن خادماتك .. أنت الحب يا أماه … وأنت الشرف والواجب والتضحية والفضيلة . لقد ارتضيت أن تكوني الضريبة على الأجيال الجديدة … الضريبة الفادحة على رأسمالية العلم والثقافة والحرية … التي تسلمها الرجال خالصة من يديك . إني أنحني إحتراماً لك … وأقبل يديك .. يا مريم الطاهرة . |