الثقافيةمنوعات

“مدينة‭ ‬الملاهي”.. عالم‭ ‬غرائبي‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬الزمن

إذا‭ ‬كان‭ ‬للصورة‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تمثيل‭ ‬المكان‭ ‬والحركة‭ ‬والزمان،‭ ‬فهي‭ ‬عبارة‭ ‬تنطبق‭ ‬على‭ ‬فِيلْم‭ ‬”مدينة‭ ‬الملاهي‭”‬؛‭ ‬حيث‭ ‬المكان‭ (‬بفضائه‭ ‬المادي‭ ‬والواقعي‭)‬،‭ ‬فالتوظيف‭ ‬غير‭ ‬المُعتاد‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬مكاناً‭ ‬غرائبياً،‭ ‬إذ‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬الصورة،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬عنصراً‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬السرد،‭ ‬وحركة‭ ‬الشخصيات‭ ‬داخل‭ ‬إطار‭ ‬الصورة‭.‬

يشدّك ‭”‬مدينة‭ ‬الملاهي‭”‬؛‭ ‬من‭ ‬تأليف‭ ‬وإخراج‭ ‬وائل‭ ‬أبو‭ ‬منصور،‭ ‬في‭ ‬أول‭ ‬فِيلْم‭ ‬روائي‭ ‬طويل،‭ ‬منذ‭ ‬المشهد‭ ‬الأول،‭ ‬بقدرته‭ ‬على‭ ‬استدراجك،‭ ‬وإثارة‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬اهتمامك؛‭ ‬فعناصره‭ ‬الرئيسة‭: ‬صحراء‭ ‬شاسعة،‭ ‬محطة‭ ‬بنزين‭ ‬نائية،‭ ‬ملحق‭ ‬بها‭ ‬محل‭ ‬بقالة،‭ ‬وورشة‭ ‬لإصلاح‭ ‬السيارات،‭ ‬على‭ ‬مقربة‭ ‬منها‭ ‬مدينة‭ ‬ملاهٍ‭

ومنذ‭ ‬المشهد‭ ‬الاستهلالي‭ ‬للفِلْم،‭ ‬الذي‭ ‬يستعير‭ ‬فيه‭ ‬المخرج‭ ‬صوت‭ ‬الدكتور‭ ‬مصطفى‭ ‬محمود،‭ ‬في‭ ‬برنامجه‭ ‬الشهير‭ “‬العلم‭ ‬والإيمان‭”‬،‭ ‬وهو‭ ‬يتحدث‭ ‬في‭ ‬حلقة‭ “‬اللغز‭ ‬الفلكي‭” ‬عن‭ ‬بداية‭ ‬الكون،‭ ‬نُدرك‭ ‬أن‭ ‬لغة‭ ‬الكلام‭ ‬تعطلت‭ ‬بين‭ “‬مسعود‭” (‬محمد‭ ‬سلامة‭)‬،‭ ‬و‭”‬سلمى‭” (‬ندى‭ ‬المجددي‭)‬،‭ ‬التي‭ ‬تُرافقه‭ ‬في‭ ‬السيارة،‭ ‬حديثة‭ ‬الطراز،‭ ‬إلى‭ ‬وجهة‭ ‬غير‭ ‬معلومة،‭ ‬قادمة‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬مجهول،‭ ‬وأن‭ ‬ثَمَّة‭ ‬خللاً،‭ ‬لا‭ ‬نعرف‭ ‬كنهه،‭ ‬يعتور‭ ‬العلاقة‭ ‬بينهما؛‭ ‬فالتعتيم‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬الإثارة‭ ‬التي‭ ‬يُسبغها‭ ‬الكاتب‭ / ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬الأحداث،‭ ‬التي‭ ‬تبلغ‭ ‬ذروتها‭ ‬عقب‭ ‬توقف‭ ‬السيارة‭ ‬في‭ ‬الصحراء،‭ ‬التي‭ ‬تبتلع‭ ‬البشر،‭ ‬وتحيلهم‭ ‬إلى‭ ‬مُهمشين،‭ ‬ما‭ ‬يضطر‭ “‬مسعود‭” ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬زوجته،‭ ‬وحدها،‭ ‬ليبحث‭ ‬عمن‭ ‬يُصلح‭ ‬السيارة،‭ ‬ويعثر‭ ‬على‭ ‬ضالته‭ ‬بالفعل‭ ‬في‭ ‬شخص‭ ‬الميكانيكي‭ “‬سفيان‭ ‬أبو‭ ‬طاقية‭” (‬نايف‭ ‬الظفيري‭) ‬الجاهل،‭ ‬العدواني،‭ ‬حاد‭ ‬الطباع،‭ ‬الذي‭ ‬يسعى‭ ‬للسيطرة،‭ ‬صوَّره‭ ‬السيناريو؛‭ ‬بشعره‭ ‬الأشعث،‭ ‬ولحيته‭ ‬الكثة،‭ ‬وتجهمه‭ ‬الدائم،‭ ‬وكأنه‭ ‬عضو‭ ‬في‭ ‬جماعة‭ ‬دينية‭ ‬متطرفة،‭ ‬لكن‭ ‬تناقض‭ ‬شخصيتيهما‭ ‬لا‭ ‬يمنعهما‭ ‬من‭ ‬الاتفاق‭ ‬على‭ ‬إصلاح‭ ‬السيارة،‭ ‬نظير‭ ‬مبلغ‭ ‬مادي‭ ‬باهظ،‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬يتسلمها‭ “‬مسعود‭” ‬صبيحة‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬ما‭ ‬يضطره‭ ‬إلى‭ ‬تمضية‭ ‬ليلته‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬زوجته‭!‬

الدنيا‭ ‬ملاهٍ‭ ‬مهجورة‭!‬

هنا‭ ‬لا‭ ‬بدّ‭ ‬أن‭ ‬تدفعك‭ ‬عوامل‭ ‬عدة‭ ‬لعدم‭ ‬استساغة‭ ‬هذه‭ ‬الجزئية‭ ‬من‭ ‬السيناريو‭ (“‬مسعود‭” ‬يرتضي‭ ‬تمضية‭ ‬الليلة‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬زوجته‭ “‬سلمى‭” ‬التي‭ ‬يتركها‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭!)‬؛‭ ‬أولها‭: ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يفكر،‭ ‬ولو‭ ‬لحظة‭ ‬قبل‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬ثانيها‭: ‬كيف‭ ‬لصحراوي‭ ‬تأصل‭ ‬على‭ ‬صفات‭ ‬الرجل‭ ‬الشرقي؛‭ ‬كالنخوة،‭ ‬والشهامة،‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬زوجته‭ ‬طوال‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يهرع‭ ‬للاطمئنان‭ ‬عليها؟‭ ‬ثالثها‭: ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تخطر‭ ‬على‭ ‬باله،‭ ‬وعلى‭ ‬بال‭ ‬الكاتب‭ / ‬المخرج،‭ ‬فيتذكراها‭ ‬بمشهد‭ ‬واحد‭. ‬أما‭ ‬رابعها‭ ‬فيتمثل‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬جميع‭ ‬الشخصيات،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬البقال‭ ‬والميكانيكي،‭ ‬أن‭ “‬مسعود‭” ‬ترك‭ ‬زوجته‭ ‬وحيدة‭ ‬في‭ ‬الصحراء‭ ‬مترامية‭ ‬الأطراف،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقترح‭ ‬أي‭ ‬شخص‭ ‬مساعدته‭ ‬في‭ ‬إحضارها‭ ‬لتُقيم‭ ‬الليلة‭ ‬معه‭!‬

المخرج‭ ‬وائل‭ ‬أبو‭ ‬منصور

لا‭ ‬يُجيبك‭ ‬المخرج‭ ‬على‭ ‬أسئلتك‭ ‬القلقة،‭ ‬لأنه‭ ‬تعمَّد‭ ‬هذا‭ ‬لعاملين‭ ‬أيضاً؛‭ ‬أولهما‭ ‬أن‭ ‬يدفع،‭ ‬أو‭ ‬يورط،‭ ‬بطله‭ “‬مسعود‭” ‬في‭ ‬استكشاف‭ ‬العالم‭ ‬الغرائبي،‭ ‬للمكان‭ ‬السريالي،‭ ‬العبثي‭ ‬والمُريب،‭ ‬وكذلك‭ ‬الشخصيات‭ ‬الغامضة،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬إثارة‭ ‬عن‭ ‬المكان،‭ ‬وثانيهما‭ ‬أن‭ ‬يُتيح‭ ‬الفرصة‭ ‬للزوجة‭ “‬سلمى‭” ‬كي‭ ‬ترى‭ ‬جانباً‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬الحياة‭ ‬غير‭ ‬الذي‭ ‬اعتادت‭ ‬عليه‭ ‬مع‭ ‬زوجها؛‭ ‬بدليل‭ ‬أنه‭ ‬عندما‭ ‬عاد‭ ‬بالكاميرا‭ ‬إليها‭ ‬نجدها،‭ ‬هي‭ ‬الأخرى،‭ ‬في‭ ‬شاغل‭ ‬يلهيها‭ ‬عن‭ ‬زوجها؛‭ ‬وكأنها‭ ‬وجدت‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬عالم‭ “‬ليلى‭” (‬سارة‭ ‬طيبة‭)‬،‭ ‬والشباب،‭ ‬الذين‭ ‬يسكنون‭ ‬خيمة‭ ‬صحراوية‭ ‬مجاورة،‭ ‬ويعيشون‭ ‬الحياة‭ ‬التي‭ ‬حُرمت‭ ‬منها،‭ ‬وتوقن‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تعشها‭ ‬مع‭ “‬مسعود‭”.‬

وفي‭ ‬سياق‭ ‬هذه‭ ‬الرؤية‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يذهب‭ “‬مسعود‭”‬،‭ ‬في‭ ‬الموعد‭ ‬المُحدد‭ ‬لاستلام‭ ‬سيارته،‭ ‬فلا‭ ‬يجدها،‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ “‬سُفيان‭”‬،‭ ‬وتبدأ‭ ‬رحلة‭ ‬استكشاف‭ ‬البشر‭ ‬والمكان؛‭ ‬مثل‭: “‬مختار‭”‬،‭ ‬صاحب‭ ‬محل‭ ‬البقالة‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬المتدين،‭ ‬المحافظ،‭ ‬الجاهل،‭ ‬ورغم‭ ‬هذا‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬قيمه،‭ ‬التي‭ ‬يؤمن‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬من‭ ‬حوله،‭ ‬و‭”‬ياقوت‭” (‬عبد‭ ‬الإله‭ ‬القرشي‭)‬،‭ ‬الصعلوك،‭ ‬الذي‭ ‬يؤمن‭ ‬أن‭ ‬البقاء‭ ‬للأقوى،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يعمل‭ ‬لحساب‭ “‬سفيان‭”‬،‭ ‬ويُدير‭ ‬عالمه‭ ‬الخفي‭ ‬والمشبوه؛‭ ‬حيث‭ ‬الاتجار‭ ‬بالبشر،‭ ‬والتربّح‭ ‬من‭ ‬العابرين‭ ‬والمُشرّدين،‭ ‬وعابري‭ ‬السبيل،‭ ‬مثلما‭ ‬يكتشف‭ “‬مدينة‭ ‬الملاهي‭”‬،‭ ‬والفندق‭ ‬المُقتطع‭ ‬منها،‭ ‬وتصل‭ ‬الإثارة‭ ‬إلى‭ ‬ذروتها‭ ‬مع‭ ‬شعور‭ “‬ياقوت‭” ‬اليقيني‭ ‬أن‭ “‬مسعود‭” ‬يتلصص‭ ‬عليه،‭ ‬ويبدو‭ ‬وكأنهما‭ ‬تحولا‭ ‬إلى‭ “‬قط‭” ‬و‭”‬فأر‭”‬،‭ ‬ويُبلغه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يُشبه‭ ‬التهديد‭ ‬والوعيد‭ ‬أن‭ “‬الفضول‭ ‬قتل‭ ‬القطة‭”‬،‭ ‬فيضطر‭ “‬مسعود‭” ‬إلى‭ ‬شراء‭ “‬كارافان‭”‬،‭ ‬وعندما‭ ‬يتحول‭ ‬التهديد‭ ‬إلى‭ ‬حقيقة،‭ ‬ويُفصح‭ “‬سفيان‭” ‬عن‭ ‬وجهه‭ ‬القبيح،‭ ‬ويُلقنه‭ ‬علقة‭ ‬قاسية،‭ ‬يعقد‭ “‬مسعود‭” ‬النية‭ ‬على‭ ‬مغادرة‭ ‬المكان،‭ ‬والعودة‭ ‬إلى‭ ‬زوجته،‭ ‬مُحطماً،‭ ‬مهزوماً،‭ ‬يجر‭ ‬أذيال‭ ‬خيبته،‭ ‬ويواصل‭ ‬رحلته،‭ ‬وفي‭ ‬الحلق‭ ‬غُصة‭.. ‬وفي‭ ‬النفس‭ ‬مرارة!

من الفيلم

غرائبية‭ ‬أم‭ ‬سريالية‭!‬

إذا‭ ‬كان‭ ‬للصورة‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬تمثيل‭ ‬المكان‭ ‬والحركة‭ ‬والزمان،‭ ‬فهي‭ ‬عبارة‭ ‬تنطبق‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬فِلْم‭ “‬مدينة‭ ‬الملاهي‭”‬؛‭ ‬حيث‭ ‬المكان‭ (‬بفضائه‭ ‬المادي‭ ‬والواقعي‭)‬؛‭ ‬سواء‭ ‬الصحراء،‭ ‬الورشة،‭ ‬محل‭ ‬البقالة‭ ‬المتواضع،‭ ‬النُزل‭ ‬الأكثر‭ ‬تواضعاً،‭ ‬المصلى،‭ ‬محطة‭ ‬البنزين‭ ‬ومدينة‭ ‬الملاهي،‭ ‬فالتوظيف‭ ‬غير‭ ‬المُعتاد‭ ‬جعل‭ ‬منه‭ ‬مكاناً‭ ‬غرائبياً،‭ ‬بل‭ ‬بطلاً‭ ‬للتجربة‭ ‬المُدهشة؛‭ ‬إذ‭ ‬هيمن‭ ‬على‭ ‬الصورة،‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬عنصراً‭ ‬رئيساً‭ ‬في‭ ‬عملية‭ ‬السرد،‭ ‬وحركة‭ ‬الشخصيات‭ ‬داخل‭ ‬إطار‭ ‬الصورة،‭ ‬أما‭ ‬الزمان‭ ‬فلا‭ ‬يمكنك‭ ‬تحديده،‭ ‬وإن‭ ‬كنت‭ ‬تلمح‭ ‬صداه‭ ‬في‭ ‬السيارة‭ ‬حديثة‭ ‬الطراز،‭ ‬والحائط‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬حائط‭ ‬كتبت‭ ‬عليه‭ ‬عبارات‭ ‬عشوائية‭ ‬أو‭ ‬مجرد‭ ‬رسوم‭ ‬جرافيتية،‭ ‬تُسجل‭ ‬للذكرى؛‭ ‬بل‭ ‬كان‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬بلاغ‭ ‬للرأي‭ ‬العام‭ ‬يبث‭ ‬شكاوى‭ ‬وأنين‭ ‬المُعذبين‭ (‬تأمل‭ ‬العبارات‭ ‬والشكاوى‭ ‬المكتوبة‭: ‬حسبي‭ ‬الله،‭ ‬وصف‭ ‬سفيان‭ ‬أبو‭ ‬طاقية‭ ‬بـ‭ “‬أبو‭ ‬كلب‭”‬،‭ ‬الحنين‭ ‬إلى‭ ‬الديار‭ ‬البعيدة،‭ ‬شباك‭ ‬الحبيب،‭ ‬المليح‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يروح،‭ ‬الإشارة‭ ‬إلى‭ ‬ترحيل‭ ‬الأنفار‭.. ‬وكله‭ ‬قضبان‭!).‬

لكن‭ ‬هل‭ ‬تآلف‭ ‬المكان‭ ‬الغرائبي‭ ‬مع‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأكثر‭ ‬من‭ ‬غرائبية؟

هكذا‭ ‬فعل؛‭ ‬ليكتمل‭ ‬الشكل‭ ‬غير‭ ‬المألوف،‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نُطلق‭ ‬عليه‭ “‬غرائبي‭”‬،‭ ‬والذي‭ ‬تنطق‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬تفصيلة‭ ‬في‭ ‬الفِلْم؛‭ ‬فضلاً‭ ‬عن‭ ‬الحضور‭ ‬المتوهج‭ ‬لثنائية‭ ‬الصورة‭ ‬والمكان‭ (‬منسق‭ ‬المناظر‭ ‬فارس‭ ‬العشي‭)‬؛‭ ‬فالصورة‭ ‬ليست‭ ‬مجرد‭ ‬تجسيد‭ ‬للمكان،‭ ‬بل‭ ‬تُعيد‭ ‬إنتاجه،‭ ‬وتقدِّمه‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يُطلق‭ ‬عليه‭ “‬الجغرافيا‭ ‬السحرية‭”‬؛‭ ‬عبر‭ ‬عدة‭ ‬محاور؛‭ ‬كالقصة‭ ‬المبتكرة،‭ ‬البنية‭ ‬السردية‭ ‬الشيقة‭ ‬والأخاذة،‭ ‬وإن‭ ‬بدت‭ “‬أرسطية‭ ‬تقليدية‭”‬،‭ ‬في‭ ‬الظاهر،‭ ‬فإذا‭ ‬تأملناها،‭ ‬بدقة،‭ ‬نتبين‭ ‬أنها‭ ‬قفزت‭ ‬فوق‭ ‬الواقع‭ ‬لتُبدع‭ ‬بيئة‭ ‬متخيلة؛‭ ‬بفضل‭ ‬المعالجة‭ ‬البصرية‭ (‬تصوير‭: ‬مدير‭ ‬التصوير‭ ‬الهندي‭ ‬ساشانك‭ ‬سانا،‭ ‬وإضاءة‭: ‬مدير‭ ‬الإضاءة‭ ‬رودريجو‭ ‬أوبريجون‭ ‬أوبيديا‭ ‬وجيليرمو‭ ‬حجاب‭)‬،‭ ‬والرسائل‭ ‬غير‭ ‬المباشرة؛‭ ‬التي‭ ‬تتحدث‭ ‬عن‭ ‬المشكلات‭ ‬التي‭ ‬يموج‭ ‬بها‭ ‬العالم،‭ ‬وتُحرض‭ ‬على‭ ‬التمرُّد‭ (‬حائط‭ ‬الأنين‭ ‬والشكوى‭ ‬ورجل‭ ‬الدين‭ “‬أبو‭ ‬محمود‭” (‬محمود‭ ‬تراوري‭)‬،‭ ‬الغارق‭ ‬لأذنيه‭ ‬في‭ ‬شؤون‭ ‬الزاوية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يتدخل‭ ‬ليصوِّب‭ ‬الأوضاع،‭ ‬أو‭ ‬يستنكر‭ ‬الشر،‭ ‬ويواجه‭ ‬الأشرار‭)‬،‭ ‬ليبقى‭ ‬التمرد‭ ‬سمة‭ ‬للفِلْم،‭ ‬وإن‭ ‬بدا‭ ‬غير‭ ‬مُعلن،‭ ‬والحال‭ ‬نفسها‭ ‬مع‭ ‬بقية‭ ‬العناصر،‭ ‬التي‭ ‬تضافر‭ ‬فيها‭ ‬الشكل،‭ ‬والمحتوى،‭ ‬ليُطلقا‭ ‬العنان‭ ‬للمخرج،‭ ‬ويُحرراه‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬السلطة،‭ ‬والواقع،‭ ‬مثلما‭ ‬ضمنا‭ ‬الحرية‭ ‬لخيالنا،‭ ‬ومشاعرنا،‭ ‬وطرحا‭ ‬مفاهيم‭ ‬جمالية،‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لإعادة‭ ‬تعريف‭ ‬الإحساس‭ ‬بالحياة‭ ‬والأشياء‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬رتابة‭ ‬الاعتياد.‭

من الفيلم

‭”‬مدينة‭ ‬الملاهي‭” ‬عمل‭ ‬سينمائي‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬كاتبه‭ ‬ومخرجه‭ ‬وائل‭ ‬أبو‭ ‬منصور،‭ ‬مفاجأة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس؛‭ ‬كونه‭ ‬صاحب‭ ‬أسلوب‭ ‬خاص،‭ ‬ووجهة‭ ‬نظر‭ ‬متفردة،‭ ‬وقدرة‭ ‬على‭ ‬الاختزال؛‭ ‬سواء‭ ‬على‭ ‬صعيد‭ ‬الحكي،‭ ‬أو‭ ‬اختيار‭ ‬أبطاله‭ ‬وشخوصه،‭ ‬حسب‭ ‬الحاجة‭ ‬بالضبط،‭ ‬ووعيه‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يتعلق‭ ‬بالتركيز‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ “‬الزمن‭ ‬الباهت‭” ‬و‭”‬الجمال‭ ‬الزائل‭” (‬الملاهي‭ ‬المرتبطة‭ ‬في‭ ‬الأذهان‭ ‬بمكان‭ ‬ومعنى‭ ‬الفرح،‭ ‬اللهو،‭ ‬الترفيه‭ ‬والترويح‭ ‬عن‭ ‬النفس،‭ ‬أصبحت‭ ‬مكاناً‭ ‬لتهريب‭ ‬البشر‭ ‬والاتجار‭ ‬بمصائرهم‭ ‬وحيواتهم‭) ‬بما‭ ‬يجعل‭ ‬الحنين‭ ‬يؤرقنا،‭ ‬ويشدنا،‭ ‬إلى‭ ‬استعادة‭ ‬معاني‭ ‬الفرح،‭ ‬التي‭ ‬قتلت‭ ‬وانتهكت،‭ ‬وأعدمت،‭ ‬وحل‭ ‬مكانها‭ ‬عالم‭ ‬قاسٍ‭ ‬وموحش،‭ ‬وهي‭ ‬الرسائل‭ ‬الإنسانية‭ ‬الجميلة،‭ ‬التي‭ ‬تبنَّى‭ ‬المخرج‭ ‬تقديمها‭ ‬بأقل‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬اللقطات‭ (‬مونتاج‭: ‬شاهيناز‭ ‬دليمي‭)‬،‭ ‬وبكاميرا‭ ‬رصينة‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬الطيش‭ ‬ولا‭ ‬استعراض‭ ‬العضلات‭ ‬بهدف‭ ‬الإبهار‭ ‬المجاني،‭ ‬والتوظيف‭ ‬الفاهم‭ ‬للموسيقى‭ (‬مايك‭ ‬وفابيان‭ ‬كورتز‭)‬،‭ ‬والاختيار‭ ‬المتميز‭ ‬لأغاني‭ ‬الصحراء‭ (“‬الحب‭ ‬المفضوح‭” ‬و‭”‬أنا‭ ‬مالي‭ ‬ومالي‭”‬،‭ ‬كتابة‭ ‬وأداء‭: ‬البُعد‭ ‬التاسع،‭ ‬والموسيقى‭ ‬الافتتاحية‭ ‬لأغنية‭ “‬شفت‭”‬،‭ ‬كتابة‭: ‬الأمير‭ ‬محمد‭ ‬العبدالله‭ ‬الفيصل،‭ ‬وألحان‭ ‬الموسيقى‭: ‬سراج‭ ‬عمر،‭ ‬أداء‭ ‬الفنان‭: ‬علي‭ ‬عبدالكريم‭)‬؛‭ ‬بحيث‭ ‬روى‭ ‬قصته‭ ‬بإبداع،‭ ‬كما‭ ‬أوصل‭ ‬عالمه‭ (‬المكان‭ ‬والشخصيات‭) ‬بشكل‭ ‬حبَّبنا‭ ‬فيهم،‭ ‬ووحدنا‭ ‬معهم،‭ ‬وبإيقاع‭ ‬شديد‭ ‬التكثيف،‭ ‬بينما‭ ‬جعل‭ ‬من‭ ‬فِلْم‭ “‬مدينة‭ ‬الملاهي‭” ‬مغامرة‭ ‬فنية،‭ ‬الصدق‭ ‬والطموح‭ ‬هما‭ ‬جناحيها‭. ‬

” العربية نت”

هزاع السهيمي

مؤسس صحيفة شفق الالكترونية
المدينة : جدة
الايميل : [email protected]
الجوال : 0552355833

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى