مقالات

شكراً أستاذة شعاع المجيبل

بقلم ــ أمل الحربي

مرت عدة سنوات منذ أن تخرجت من المرحلة الثانوية ،ومع ذلك لازلت احتفظ بدفتر قديم يضم مواد اللغة العربية والتي كانت في ذلك الوقت تتفروع منها مواد : (النحو والصرف ، والأدب والنصوص، والإنشاء، والبلاغة والنقد )
والتي يسند تدريسها غالباً لمعلمة واحده ،أو أكثر حسب عدد الفصول في كل مدرسة وبين الحين والحين كنت اخرجه من صندوق خصصته له لأطمئن عليه ، وامسح الغبار المتراكم عنه ، وأعيد ترميم ما تلف منه .
ومع مرور السنوات ثقلت وطأة الزمن عليه فبدأت تتمزق بعض أوراقة ، ويبهت لون الحبر على أسطره ، ويسقط غلافه الزاهي من عليه .
مع أني كنت طول تلك السنوات مهتمه به ، شديدة الحريص عليه ، لذا وضعته في صندوق يضم مجموعة من أشيائي القديمة كا شهادات الشكر ،بعض الهدايا التي كانت تمثل لي شيئاً ثمينا في ذلك الوقت ، وغير ذلك من أشياء احتفظت بها أثناء دراستي في مراحل التعليم العام.
كنتُ أخشى عليه من الضياع خاصة إذا ماقررنا الانتقال من منزل لمنزل آخر ، لذا كنت أضعه في أعلى خزانة ملابسي حتى لا تمتد إليه يد طفل شقي ، أو يأخذ طريقة لسلة المهملات على يد الخادمة .
لا أدري بالضبط كم عمر هذا الدفتر الكهل !
ولكني أعلم أني في كل مرة اتصفحه تخرج لي من بين صفحاته أستاذة فريدة ، كانت كلماتها تحرك شغفنا للمستقبل ، تجعلنا نلمس النجوم بيد ، ونرتقي السماء بلا منظاد .
تفتح لنا في حصص الأدب ، حصون من الثقافة يستحيل اقتحامها ، تنقلنا من بين العصور عبر دهاليز عميقة ، معتمة ، مضيئة ، حزينة ، مبتسمة ، وكأن في يدينا عدسة مكبرة نرأى من خلالها واقع كان بعيد ، وماضي قد عاد .
استطاعت أن تجعل كلمات أحمد شوقي في نص عمر المختارفي الصف الثالث ثانوي في مادة الأدب والنصوص تهُزنا بقوة كلماتها عندما قال :
كزوا رفاتك في الرمال لــواء
يستنهض الوادي صــباح مساء
كان لسان حالنا حينها يقول :
نحن من استنهضته تلك الكلمات وليس شعب ليبا .
وعندما كانت تشرح نص (سرنديب ) للباردوي وهو يقول :
كفى بمقامي في ســــرنديب غربة نزعت بها عنـــي ثياب العلائـــقِ 
كان لسان حالنا ونحن نشاركه تلك المشاعر المثخنة بالألم ، والمجروحة بالنفي ،لا ، لا يكفي .
وفي حصص النحو كانت لها مدخلاً سرياً كما في الحكايات لكل عقل داخل الفصل ، استطاعت من خلاله أن تهزم رهبة المادة داخل نفوسنا ، وتنتشل أي حاجز كان يقف حائلا بينا وبين تلك المادة المتغطرسة .
لم تكن استاذة شعاع المجيبل معلمة اللغة العربية في الثانوية الثالثة بالمبرز التي درست فيها المرحلة الثانوية معلمة عادية ، وهي تُهدينا كنوز الأدب ، وتسمعنا صوت جدل علماء النحو في البصرة ، وثرثرة الشعراء على خرير ضفاف نيل مصر .
كانت عظيمة بتضحياتها ، وتفانيها ، إخلاصها ، اهتمامها ، حرصها ، اجتهادها ،
اليوم وقد كبرت ،وتعلمت أن الأشياء الثمينة التي يحوزها الإنسان ليست بالضرورة أن تكون ذات قيمة مادية ثمينة .ولكنها الأشياء التي نستشعرها في أعماقنا ، مهما كانت بساطتها وقيمتها كذلك الدفتر الكهل الذي احتفظت فيه طول تلك السنوات لأنه من معلمة فريدة نادر تكررها .
لم تكن معلمتي عادية وهي تمحنا الحب ، وتُسمعنا صوت المستقبل ، وتجعلنا نجتمع حول الوطن .
أستاذتي لا تزال ذاكرتي تحتفظ لك بالكثير يوم كنا نبحث عن كلمة ترشدنا ، و قلباً يحمينا ، ويداً تشد على أيدينا .
أستاذتي تعلمنا منك أن القيادة ليست على كرسي فخمة ، ولا خلف مكتب فارهة ، ولا في تعليمات تزدحم بها أبردة المدارس .
كانت قيادة فكر ، ومنطق عقل ، وقوة علم ،وسلطة القيم ، ونموذج يحتذى ، وتضحية بعيدة المدى .
شكراً أستاذة شعاع المجيبل .

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى