“الوجه” في مخيلة شعراء البصيـرة.. البردوني نموذجاً
القافلة انعكاس لاسمها، سير حثيث يعبر مناطق الزمن ليعزِّز صلاتها الوثيقة بقرَّائها الذين ارتبط غذاء عقولهم بثرائها الصادر عن ذاكرة مهنية موغلة في الاحتراف الصحافي النوعي الذي جعل ملفاتها تتسم بواحدية الفكرة، ووفرة التعدُّد الموضوعي.
وجاء ملف “الوجه” في عدد يناير- فبراير بما يحلو للعرب تشبيهه، مكتملاً كالبدر في لحظة التجلي. إذ قدَّمته الكاتبة كموضوع محوري في عوالم الإبداع الإنساني عبر مسار تاريخ الأدب والفن والفلسفة والعلم والطب، والتقنية، لافتة الأنظار والعقول إلى قضية حضوره على مسرح التعامل الحياتي كنافذة يطل منها المرء على الآخر والعكس..
غير أن زوايا موضوعية في الملف لم تأخذ حقها، كالبعد الوظيفي للوجه في القرآن الكريم والمثل الشعبي. إذ يتجلى الوجه في السياق القرآني من الناحية الملموسة بصرياً كلوحة بيانية لأعمال المرء، كما وصف الله النبي، صلى الله عليه وسلّم، والذين أمنوا معه، بقوله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ (الفتح 29). ومن الناحية المعنوية ما يعبِّر عن غبطة وفرحة أصحاب الأعمال الصالحة بفوزهم: ﴿وجوه يومئذ مسفرة، ضاحكة مستبشرة﴾ (عبس 38-39)، واكفهرار وجوه العصاة والمجرمين كتعبير عن الخسران: ﴿ووجوه يومئذٍ عليها غَبَرَة، ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة﴾ (عبس40-41-42).
أما في المثل الشعبي السائر يقال: “الوجه مصباح البدن”، أي إنه سراج يتوهج ليدل على نوايا صاحبه وطيبه ولؤمه وصحته وسقمه. فإذا حَسُن الوجه وطاب، فكل الجسد يأخذ حظه من ذلك والعكس.. ومثلما توجد إمكانية في تزييف الوجوه بصرياً، فثمة إمكانية لزيف الجواهر، على نسق من المفارقات التي لا تجعل جمال الشكل هو جوهر المرء مهما بلغ به من بهاء، إذا لم يصدق الفعل سمات النَّضَارة.
كما أن زاوية موضوعية أخرى لم تأخذ حقها، أو لم تُدْرك، وهي رؤية شعراء البصيرة (العميان) لوجوههم التي يحملونها ولا يعرفونها، وتصورهم للوجه الآخر كقضية محورية في مقام الحديث عن حضور الوجه في الشعر العربي. إذ إن عطاءهم يشتمل على صور متخيلة بلغة تصويرية دقيقة البيان تجعل من وجودها خيطاً يسرج العقل في دهشة نفاذ البصيرة، كبديل لمأساة فقدان نعمة البصر. فالشاعر اليمني عبدالله البردوني (1929-1999م) مثلاً فقد بصره وكان في الرابعة من طفولته بسبب وباء الجدري، فرافقته هذه المأساة طول حياته الزاخرة بالإبداع. ففي ديوانه “وجوه دخانية في مرايا الليل” يطارد الشاعر في قصيدة بالعنوان نفسه وجه حلمه في مفازات الليل وبما يعكس عيشه السرمدي في الظلام:
أيها الليل !!.. أنادي إنـما
هل أنادي؟ لا .. أظن الصوت وهمي
إنه صوتي … ويبدو غيره
حين أصغي باحثــاً عن وجـه حلمــي
وفي ديوانه “السفر إلى الأيام الخضر”، يتجلى البردوني في قصيدته “غريبان وكانا هما الوطن” شاعراً بصيراً جابت مخيلته الآفاق راسمة صوراً عجز المبصرون أن يتخيلونها، لكنه بَرْوَزَها ببيان مشرئب بالسهل الممتنع معبراً عن الذاكرة الجمعية اليمنية القلقة المجبولة على مكابدات الهجرة والضرب في مناكب الأرض، إذ يطل من ناصية مهاجر يتهجى العابرين لعله يجد فيهم يمنياً واصلاً من الوطن الأم:
من ذلك الوجه …؟ يبدو أنه (جَنَدِي)
لا … بل (يريمي) سأدعو، جدّ مبتعد
ويسترسل مخمناً انتماء الوجه لأي من مناطق اليمن المترامية، مفضياً لتخمين شمل جغرافيا اليمن عبر أهم الصفات المشتركة بين أبنائها:
عرفته يمنيًّا في تلفّته
خوفٌ … وعيناه تاريخٌ من الرَّمَـدِ
وفي قصيدته الشهيرة: “أبو تمام وعروبة اليوم” التي ألقاها في مهرجان الشعر العربي بالموصل في العراق عام 1971م الذي أقيم تخليداً للذكرى الألف لوفاة الشاعر العربي الكبير حبيب بن أوس الطائي المكنى بـ”أبي تمام” يوغل البردوني في وصف تفاصيل وجهه الموشى بزمن الهزال والشيب المبكر، متسائلاً في خطابه الموجَّه افتراضاً لأبي تمام، عن سر تعجب الأخير من وجهه المجدور:(حـبيب) هـذا صـداك اليوم أنشــده لـكن لـماذا تـرى وجـهـي وتكتئــب؟
مـاذا؟ أتعجب من شيبي على صغري؟
إنـي ولـدت عجوزاً.. كيف تعتجبُ؟!
والـيوم أذوي وطـيش الـفـن يعزفني
والأربـعـون عـلى خـــدّي تـلتهـــبُ
كـذا إذا ابـيض إيـنـــاع الـحيــاة على
وجـه الأديـب أضــاء الفكـرُ والأدبُ
**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية