منوعات

المرونة‭ ‬المعرفيّة.. لازمةُ‭ ‬عصر ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬وما‭ ‬بعده

ما‭ ‬هو‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي؟‭ ‬وهل‭ ‬تختلف‭ ‬شروطه‭ ‬عما‭ ‬قبله؟‭ ‬وما‭ ‬هي‭ ‬البوصلة‭ ‬التي‭ ‬يسترشد‭ ‬بها‭ ‬الأفراد‭ ‬والجماعات؟
انتشرت‭ ‬ظاهرة‭ ‬التخصُّص‭ ‬وتقسيم‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬انطلاق‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعيّة‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬القرن‭ ‬الثامن‭ ‬عشر،‭ ‬وشكّلت‭ ‬منذ‭ ‬ذلك‭ ‬الحين،‭ ‬أحد‭ ‬السبل‭ ‬الرئيسة‭ ‬لكسب‭ ‬المهارات،‭ ‬ولنجاح‭ ‬الأفراد‭ ‬والمؤسّسات‭. ‬لكن‭ ‬تغيُّراً‭ ‬كبيراً‭ ‬دخل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬التكنولوجيا‭ ‬الذكية؛‭ ‬إذ‭ ‬تتّجه‭ ‬التخصّصات‭ ‬إلى‭ ‬التداخل‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬ويتّجه‭ ‬العمل‭ ‬نحو‭ ‬التكامل‭ ‬بدل‭ ‬الانقسام‭. ‬يبرز‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬دمج‭ ‬التقنيّات‭ ‬الميكانيكيّة‭ ‬والرقميّة‭ ‬والبيولوجيّة،‭ ‬فيما‭ ‬يُعرف‭ ‬بالثورة‭ ‬الصناعيّة‭ ‬الرابعة‭. ‬

كما‭ ‬يبرزُ‭ ‬هذا‭ ‬التغيرُ‭ ‬في‭ ‬التطوُّر‭ ‬النوعي،‭ ‬قيد‭ ‬الانطلاق،‭ ‬في‭ ‬الإنترنت‭ ‬والمتمثل‭ ‬بـ‭”‬الميتافيرس‭”‬،‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬دمج‭ ‬الواقع‭ ‬المعزَّز‭ ‬والواقع‭ ‬الافتراضي‭ ‬والواقع‭ ‬المختلط‭ ‬الثلاثي‭ ‬الأبعاد‭. ‬الذي‭ ‬من‭ ‬المتوقع‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬الوسيلة‭ ‬الرئيسة‭ ‬للتواصل‭ ‬وللنشاطات‭ ‬الفردية‭ ‬والاجتماعية‭ ‬والتجارية؛‭ ‬ويُحدثَ‭ ‬تغيراً‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬والصناعة،‭ ‬بنفس‭ ‬القدر‭ ‬الذي‭ ‬أحدثه‭ ‬الهاتف‭ ‬المحمول‭. ‬

ونظراً‭ ‬إلى‭ ‬الطبيعية‭ ‬المتغيّرة‭ ‬والمتجدِّدة‭ ‬باستمرار‭ ‬لهذا‭ ‬العصر،‭ ‬أصبح‭ ‬النجاح‭ ‬منوطاً‭ ‬بكسر‭ ‬قوّة‭ ‬العادات،‭ ‬وإقران‭ ‬المهاراتِ‭ ‬بمَلَكة‭ ‬الخيال‭ ‬والإبداع‭.‬

أبعد‭ ‬من‭ ‬الذكاء

والحال‭ ‬أن‭ ‬النجاح‭ ‬قد‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬أذهان‭ ‬الناس،‭ ‬حتى‭ ‬وقت‭ ‬قريب،‭ ‬بمعدّل‭ ‬الذكاء‭. ‬فلدى‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬افتتانٌ‭ ‬بمعدلات‭ ‬ذكاء‭ ‬المشاهير‭ ‬والمخترعين‭ ‬وأصحاب‭ ‬الأعمال،‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬شيءٌ‭ ‬معطًى‭ “‬دماغيٌ‭” ‬شبه‭ ‬ثابت‭. ‬لكن‭ ‬أسباب‭ ‬النجاح‭ ‬تختلف‭ ‬بين‭ ‬عصرٍ‭ ‬وآخر‭. ‬فالذكاء،‭ ‬وخاصّة‭ ‬الذكاء‭ ‬الفرديّ،‭ ‬الذي‭ ‬لعب‭ ‬دوراً‭ ‬كبيراً‭ ‬فيما‭ ‬مضى،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬كافياً‭ ‬بحد‭ ‬ذاته‭.

لذلك‭ ‬عبَّر‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الانتقادات‭ ‬عالِم‭ ‬الأركيولوجيا‭ ‬ستيفن‭ ‬جاي‭ ‬جولد‭: “‬أنا،‭ ‬بطريقة‭ ‬ما،‭ ‬أقل‭ ‬اهتماماً‭ ‬بوزن‭ ‬دماغ‭ ‬أينشتاين‭ ‬وتلافيفه،‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬أشخاصاً‭ ‬من‭ ‬مستوى‭ ‬الذكاء‭ ‬نفسه،‭ ‬أو‭ ‬ربما‭ ‬أكثر،‭ ‬قد‭ ‬عاشوا‭ ‬وماتوا‭ ‬في‭ ‬حقول‭ ‬القطن‭”. ‬إنه‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬أبعادٍ‭ ‬أخرى‭ ‬للنجاح‭ ‬وللاكتشافات‭ ‬العلميّة،‭ ‬كما‭ ‬أثبت،‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬أستاذ‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬المعرفة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬هارفارد،‭ ‬توماس‭ ‬كون‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ “‬بنية‭ ‬الثورات‭ ‬العلميّة‭”‬،‭ ‬1962م‭. ‬فالمعرفة،‭ ‬وخاصّة‭ ‬المعرفة‭ ‬العلميّة،‭ ‬كالشجرة‭ ‬التي‭ ‬تمتدّ‭ ‬جذورها‭ ‬إلى‭ ‬قاع‭ ‬المجتمع‭. ‬فلو‭ ‬ولد‭ ‬أينشتاين،‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأمكنة‭ ‬النائية‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬المكتبة‭ ‬والمختبر‭ ‬والجامعة‭ ‬والبيئة‭ ‬العلميّة‭ ‬والتمويل‭ ‬اللازم،‭ ‬لعاش‭ ‬ومات‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرفه‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الناس‭.‬

ويتأكّد‭ ‬هذا‭ ‬البُعد‭ ‬أكثر‭ ‬فأكثر‭ ‬في‭ ‬الأبحاث‭ ‬العلميّة‭ ‬الحديثة‭. ‬إذ‭ ‬بدأ‭ ‬العلماء‭ ‬ينظرون‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬أبعد‭ ‬من‭ ‬الدماغ‭ ‬الفرديّ‭ ‬لدراسة‭ ‬الإدراك‭ ‬والمعرفة،‭ ‬وظهر‭ ‬إلى‭ ‬التداول‭ ‬في‭ ‬الأوساط‭ ‬الأكاديمية‭ ‬مصطلح‭ “‬العقل‭ ‬الجماعيّ‭”. ‬فقد‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬دراسة‭ ‬لباحثين‭ ‬من‭ ‬جامعة‭ ‬إلينوي،‭ ‬نشرت‭ ‬في‭ ‬مجلة‭ “‬فرونتيرز‭ ‬إن‭ ‬سيستمز‭ ‬نيوروساينس‭”‬،‭ ‬في‭ ‬21‭ ‬أكتوبر‭ ‬2021م‭: “‬تشير‭ ‬الأدلّة‭ ‬المتراكمة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الذاكرة،‭ ‬والتفكير،‭ ‬واتخاذ‭ ‬القرار،‭ ‬والوظائف‭ ‬الأخرى‭ ‬الرفيعة‭ ‬المستوى،‭ ‬تَحدُث‭ ‬عبر‭ ‬الأفراد‭. ‬إن‭ ‬الإدراك‭ ‬يمتد‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭ ‬الماديّ‭ ‬وعقول‭ ‬الآخرين‭”.‬

هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬المنطقيّ‭ ‬أو‭ ‬الرياضيّ‭ (‬نسبة‭ ‬للرياضيّات‭) ‬وما‭ ‬شابه،‭ ‬ليس‭ ‬الشكل‭ ‬الرئيس‭ ‬لتميُّز‭ ‬الجنس‭ ‬البشريّ‭. ‬إذ‭ ‬تبيّن‭ ‬من‭ ‬دراساتٍ‭ ‬عديدة،‭ ‬أن‭ ‬لدى‭ ‬معظم‭ ‬الفنّانين‭ ‬ورجال‭ ‬الأعمال‭ ‬وبعض‭ ‬العلماء‭ ‬الآخرين،‭ ‬مستويات‭ ‬ذكاءٍ‭ ‬متوسطٍ؛‭ ‬لأن‭ ‬النظام‭ ‬المعتمَد‭ ‬لقياس‭ ‬نسبة‭ ‬ذكاء‭ ‬الفرد‭ ‬لا‭ ‬يقيس‭ ‬الإبداع،‭ ‬والخيال،‭ ‬والتشاعر‭ (‬empathy‭)‬،‭ ‬والإحساس‭ ‬بالألوان‭ ‬والملمس،‭ ‬وغير‭ ‬ذلك‭.‬

ريتشارد‭ ‬فاينمان،‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬أعظم‭ ‬علماء‭ ‬الفيزياء‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬سجل‭ ‬رقم‭ ‬124‭ ‬على‭ ‬مقياس‭ ‬الذكاء‭ ‬IQ،‭ ‬وهو‭ ‬رقمٌ‭ ‬متواضع‭ ‬لا‭ ‬يتناسب‭ ‬مع‭ ‬إسهامه‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬صوغ‭ ‬نظرية‭ ‬الديناميكا‭ ‬الكهربائية‭ ‬الكمية‭. ‬وعندما‭ ‬علم‭ ‬بهذه‭ ‬النتيجة،‭ ‬سخر‭ ‬من‭ ‬الاختبار‭. ‬

كذلك‭ ‬يشير‭ ‬البعض‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬لودفيغ‭ ‬فان‭ ‬بيتهوفن،‭ ‬المؤلّف‭ ‬الموسيقي‭ ‬المشهور،‭ ‬بعدما‭ ‬ترك‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬سن‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة،‭ ‬للمساعدة‭ ‬في‭ ‬إعالة‭ ‬الأسرة،‭ ‬لم‭ ‬يتعلَّم‭ ‬أبداً‭ ‬الضرب‭ ‬أو‭ ‬القسمة‭ ‬في‭ ‬الحساب‭. ‬وكان‭ ‬حتى‭ ‬يومه‭ ‬الأخير،‭ ‬إذا‭ ‬اضطُرّ‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يضرب،‭ ‬مثلاً‭ ‬65‭ ‬×‭ ‬52،‭ ‬يضع‭ ‬65،‭ ‬52‭ ‬مرة‭ ‬ويجمعها‭. ‬والمؤكد‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬ليحصل‭ ‬على‭ ‬معدل‭ ‬ذكاءٍ‭ ‬منخفضٍ‭ ‬جداً‭.‬

تحوُّل‭ ‬في‭ ‬النموذج‭ ‬الفكري

لبحث‭ ‬المهارات‭ ‬المطلوبة‭ ‬في‭ ‬عصر‭ ‬الثورة‭ ‬الصناعية‭ ‬الرابعة،‭ ‬أعلن‭ ‬المنتدى‭ ‬الاقتصادي‭ ‬العالمي‭ ‬أن‭ “‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭” (‬cognitive flexibility‭) ‬هي‭ ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬المهارات‭ ‬الأولى‭ ‬اللازمة‭ ‬للتميُّز‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬العمل‭ ‬عام‭ ‬2020م‭. ‬وظهرت‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬دراسات‭ ‬عديدة‭ ‬تلقي‭ ‬الأضواء‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬المفهوم،‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬قيد‭ ‬التبلور‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬الباحثين‭ ‬قد‭ ‬عرفوا‭ ‬منذ‭ ‬مدّة‭ ‬طويلة‭ ‬أن‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفية‭ ‬هي‭ ‬سمةٌ‭ ‬مهمةٌ‭ ‬لوظيفة‭ ‬الدماغ‭ ‬البشري،‭ ‬لكنهم‭ ‬لم‭ ‬يُوْلوا‭ ‬الاهتمام‭ ‬الكافي‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬التقدُّم‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬تكنولوجيا‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعيّ،‭ ‬وظهور‭ ‬العلوم‭ ‬الإدراكيّة‭ ‬cognitive sciences،‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬معاً‭ ‬عديداً‭ ‬من‭ ‬الحقول‭ ‬العلمية‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تتطلّبها‭ ‬هذه‭ ‬التكنولوجيا‭. ‬وهي‭ ‬تفترض،‭ ‬على‭ ‬الخصوص،‭ ‬التكيُّف‭ ‬مع‭ ‬بيئة‭ ‬علميةٍ‭ ‬وبحثيةٍ‭ ‬وتقنيةٍ‭ ‬جديدة؛‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬التعلُّم‭ ‬الذاتيّ،‭ ‬والتنقّل‭ ‬من‭ ‬حقلٍ‭ ‬علمي‭ ‬أو‭ ‬فني‭ ‬لآخر‭ ‬بسرعةٍ‭ ‬على‭ ‬الفور؛‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بأكثر‭ ‬من‭ ‬مهمة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭. ‬ويتطلّب‭ ‬هذا‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬مهارة‭ ‬التشاعر،‭ ‬ليصبح‭ ‬عمل‭ ‬الفريق‭ ‬فعَّالاً‭.‬

على‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬مثلاً،‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬موضوع‭ ‬علم‭ ‬الأعصاب‭ ‬والدماغ‭ ‬فوراً‭ ‬إلى‭ ‬موضوعات‭ ‬مختلفة‭ ‬في‭ ‬الألسنية‭ ‬الحاسوبية‭ ‬أو‭ ‬الرياضيّات‭ ‬أو‭ ‬علم‭ ‬النفس‭. ‬

وعند‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬قدرة‭ ‬الدماغ‭ ‬البشريّ‭ ‬على‭ ‬الإحاطة‭ ‬بهذه‭ ‬المجالات‭ ‬كلّها،‭ ‬يقول‭ ‬إدوارد‭ ‬دي‭ ‬بونو،‭ ‬الطبيب‭ ‬والفيلسوف‭ ‬وعالِم‭ ‬النفس‭ ‬المالطي،‭ ‬الذي‭ ‬اشتهر‭ ‬بكتابه،‭ “‬قبعات‭ ‬التفكير‭ ‬الست‭”‬،‭ ‬2018م‭: “‬يمكنك‭ ‬السعي‭ ‬إلى‭ ‬تطوير‭ ‬الأفكار‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مجال‭ ‬تقريباً‭”. ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬عالم‭ ‬الفيزياء‭ ‬ميتشيو‭ ‬كاكو‭: “‬في‭ ‬علم‭ ‬الفيزياء،‭ ‬كلما‭ ‬ذهبنا‭ ‬عميقاً‭ ‬إلى‭ ‬العناصر‭ ‬الأساسيّة‭ ‬لتكوين‭ ‬الأشياء،‭ ‬يصبح‭ ‬الفهم‭ ‬أسهل‭ ‬فأسهل‭”‬،‭ ‬ويستطيع‭ ‬عندئذٍ‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬فهمها‭.‬

ويعتقد‭ ‬كثيرٌ‭ ‬من‭ ‬الباحثين،‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬الوجيهة‭ ‬لتنمية‭ ‬مهارة‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة،‭ ‬أن‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وربما‭ ‬لن‭ ‬يستطيع‭ ‬في‭ ‬المستقبل،‭ ‬من‭ ‬اكتسابها‭. ‬وتبقى‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬المجالات‭ ‬الحيوية‭ ‬التي‭ ‬على‭ ‬الإنسان‭ ‬القيام‭ ‬بها،‭ ‬إذ‭ ‬ستتمحور‭ ‬حولها‭ ‬معظم‭ ‬وظائف‭ ‬المستقبل‭.‬

ما‭ ‬هي‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفية؟

يُشار‭ ‬في‭ ‬علم‭ ‬الأعصاب‭ ‬إلى‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬التكيُّف‭ ‬مع‭ ‬متطلّبات‭ ‬المؤثرات‭ ‬الخارجية؛‭ ‬أي‭ ‬بعبارة‭ ‬أخرى‭ ‬التكيُّف‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬جديد‭ ‬أو‭ ‬بيئة‭ ‬جديدة؛‭ ‬من‭ ‬بيئة‭ ‬البيت‭ ‬مثلاً‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬وغيرها،‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬تغيير‭ ‬قناعاتنا‭ ‬بسرعة‭. ‬كذلك‭ ‬يُشار‭ ‬إليها‭ ‬أحياناً‭ ‬بمصطلحات‭ ‬مثل‭ “‬تبديل‭ ‬الانتباه‭”‬،‭ ‬و‭”‬التحوُّل‭ ‬المعرفيّ‭”‬،‭ ‬و‭”‬المرونة‭ ‬العقليّة‭”‬،‭ ‬و‭”‬المرونة‭ ‬الإدراكيّة‭”‬،‭ ‬و‭”‬تبديل‭ ‬المهام‭”. ‬

ولربما‭ ‬بعض‭ ‬التشبيه‭ ‬يفيد‭: ‬إذا‭ ‬فكرنا‭ ‬في‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفية‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مماثلة‭ ‬لتغيير‭ ‬القنوات‭ ‬على‭ ‬التلفزيون،‭ ‬واعتبار‭ ‬القنوات‭ ‬على‭ ‬أنها‭ “‬تيارات‭ ‬من‭ ‬الفكر‭” ‬أو‭ ‬مفاهيم،‭ ‬والتلفزيون‭ ‬على‭ ‬أنه‭ “‬الدماغ‭”‬؛‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬عالقين‭ ‬في‭ ‬قناة‭ ‬واحدة‭ ‬ولا‭ ‬يمكننا‭ ‬تغييرها،‭ ‬تكون‭ ‬معرفتنا‭ ‬غير‭ ‬مرنة؛‭ ‬فلا‭ ‬يمكن‭ ‬تحديث‭ ‬تيار‭ ‬أفكارنا‭ ‬ومعتقداتنا‭ ‬أو‭ ‬تغييرها‭. ‬لكن‭ ‬إذا‭ ‬كنا‭ ‬نمتلك‭ ‬جهاز‭ ‬تحكّم‭ ‬من‭ ‬بُعد،‭ ‬أو‭ “‬مرونة‭”‬،‭ ‬ونستطيع‭ ‬تغيير‭ ‬القناة‭ ‬بسرعة‭ ‬كما‭ ‬نشاء،‭ ‬فنحن‭ ‬نتمتّع‭ ‬بالمرونة‭ ‬المعرفيّة‭.‬

والتعريف‭ ‬الأشهر‭ ‬للمرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬هو‭ ‬لأستاذ‭ ‬التقنيّات‭ ‬التعليميّة‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬ميتشيغن‭ ‬راند‭ ‬سبيرو‭: “‬قدرة‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬هيكلة‭ ‬معرفته‭ ‬جذرياً،‭ ‬وبطرق‭ ‬عديدة،‭ ‬والتكيُّف‭ ‬استجابةً‭ ‬لمتطلبات‭ ‬المواقف‭ ‬والظروف‭ ‬المتغيِّرة‭”.‬

وغالباً‭ ‬ما‭ ‬ترتبط‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬بمتعدّدي‭ ‬جوانب‭ ‬الثقافة‭ ‬الذين‭ ‬يتمتّعون‭ ‬بتفوُّق‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬متعدّدة‭ ‬تبدو‭ ‬غير‭ ‬مرتبطة‭ ‬فيما‭ ‬بينها،‭ ‬مثل‭ ‬ليوناردو‭ ‬دافنشي‭ ‬أو‭ ‬بنجامين‭ ‬فرانكلين‭ ‬أو‭ ‬إيلون‭ ‬ماسك‭ ‬وغيرهم‭. ‬أما‭ ‬نقيض‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬فهو‭ ‬الصلابة‭ ‬المعرفية،‭ ‬التي‭ ‬توجَد‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬اضطراب‭ ‬الصحّة‭ ‬العقليّة‭ ‬كاضطراب‭ ‬الوسواس‭ ‬القهري‭ ‬Obsessive-compulsive disorder‭ ‬وغيره‭.‬

وهذه‭ ‬بعض‭ ‬الأمثلة‭ ‬على‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭:‬

•‭ ‬ قدرة‭ ‬المرء‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بمهمتين‭ ‬أو‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭:‬‭ ‬القدرة‭ ‬خلال‭ ‬التفكير‭ ‬أو‭ ‬البحث‭ ‬الاستراتيجيّ‭ ‬بالشؤون‭ ‬الكبرى‭ ‬لشركة‭ ‬أو‭ ‬مصنع‭ ‬أو‭ ‬جامعة‭ ‬مع‭ ‬مديري‭ ‬الأقسام،‭ ‬على‭ ‬إعطاء‭ ‬أوامر‭ ‬للعاملين‭ ‬بالتنفيذ‭ ‬التكتيكيّ‭ ‬لمسائل‭ ‬تقنيّة‭ ‬بسيطة‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬عينه‭.‬

•‭ ‬ القدرة‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬من‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬مفهومٍ‭ ‬أو‭ ‬بُعدٍ‭ ‬إلى‭ ‬آخر‭ ‬بسرعة‭ ‬خلال‭ ‬ثوان،‭ ‬كأن‭ ‬ينتقل‭ ‬المرء‭ ‬من‭ ‬تحليل‭ ‬لون‭ ‬الشيء‭ ‬إلى‭ ‬شكله‭. ‬أو‭ ‬خلال‭ ‬اجتماع‭ ‬الأصدقاء‭ ‬يبدأ‭ ‬أحدهم‭ ‬في‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬التغيُّر‭ ‬المناخي،‭ ‬فجأة‭ ‬يبدأ‭ ‬آخر‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي؛‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السيناريو،‭ ‬تُعدُّ‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬بين‭ ‬المفهومين‭ ‬في‭ ‬الحال،‭ ‬مرونة‭ ‬معرفيّة‭.‬

•‭ ‬ الترجمة‭ ‬بين‭ ‬لغة‭ ‬وأخرى‭ ‬تتطلَّب‭ ‬مرونة‭ ‬معرفيَّة‭ ‬عالية‭ ‬للتنقل‭ ‬السريع‭ ‬بين‭ ‬كل‭ ‬كلمة‭ ‬وجملة‭ ‬من‭ ‬قاموس‭ ‬وقواعد‭ ‬وثقافة‭ ‬لغة‭ ‬معيَّنة،‭ ‬وبين‭ ‬قاموس‭ ‬وقواعد‭ ‬وثقافة‭ ‬لغة‭ ‬الترجمة‭ ‬باستمرار‭.‬
‭ ‬
•‭ ‬ لنفترض‭ ‬أن‭ ‬أستاذاً‭ ‬سأل‭ ‬الطلاب‭ ‬تعداد‭ ‬الطرق‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬بها‭ ‬تصنيف‭ ‬الطلاب‭ ‬في‭ ‬مجموعات‭ ‬مختلفة،‭ ‬وأين‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نجدها‭ ‬معاً‭.‬‭ ‬قد‭ ‬يقول‭ ‬أحد‭ ‬الطلاب‭ ‬الذي‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬صلابة‭ ‬معرفية‭: “‬الذين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬نفس‭ ‬الصف‭”‬،‭ ‬ويقف‭ ‬خياله‭ ‬هنا‭. ‬وقد‭ ‬يقول‭ ‬آخر‭ ‬أفضل‭ ‬منه‭: “‬الذين‭ ‬حصلوا‭ ‬على‭ ‬معدل‭ ‬فوق‭ ‬الـ‭ ‬70‭ ‬وأولئك‭ ‬تحت‭ ‬الـ‭ ‬70‭”‬،‭ ‬أو‭ “‬الذين‭ ‬يتكلّمون‭ ‬في‭ ‬الصف‭ ‬والذين‭ ‬لا‭ ‬يتكلّمون‭”. ‬الواضح‭ ‬أن‭ ‬ذهن‭ ‬هذين‭ ‬الطالبين‭ ‬عالق‭ ‬داخل‭ ‬الصف‭. ‬يقول‭ ‬آخر‭ ‬يتمتع‭ ‬بمرونة‭ ‬معرفيّة‭ ‬أفضل‭: “‬الذين‭ ‬يناقشون‭ ‬الأستاذ‭”‬،‭ ‬أو‭ “‬الذين‭ ‬يمارسون‭ ‬رياضة‭ ‬كرة‭ ‬القدم‭”‬،‭ ‬أو‭ “‬الذين‭ ‬يفضّلون‭ ‬تويتر‭ ‬والذين‭ ‬يفضلون‭ ‬تيك‭ ‬توك‭”. ‬ثم‭ ‬يقول‭ ‬آخر‭ ‬أفضل‭ ‬ممن‭ ‬سبقوه‭: “‬هناك‭ ‬تصنيفات‭ ‬لا‭ ‬تُحصَى‭ ‬ولا‭ ‬أستطيع‭ ‬تعدادها‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭”. ‬ويقول‭ ‬آخر‭ ‬يتمتع‭ ‬بمرونة‭ ‬معرفيّة‭ ‬فائقة‭: “‬نعم،‭ ‬يوجد‭ ‬عددٌ‭ ‬كبيرٌ‭ ‬من‭ ‬التصنيفات،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نجدها‭ ‬معاً‭ ‬في‭ “‬لامكان‭” ‬اللغة‭: ‬في‭ ‬الصوت‭ ‬عند‭ ‬تعدادها‭ ‬أو‭ ‬الصفحات‭ ‬التي‭ ‬كُتبت‭ ‬فيها‭”‬؛‭ ‬مستعيراً‭ ‬تعبير‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسي‭ ‬ميشال‭ ‬فوكو‭ ‬في‭ ‬مستهل‭ ‬كتابه‭ “‬الكلمات‭ ‬والأشياء‭”‬،‭ ‬1966م‭. ‬واضح‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬جميع‭ ‬مَن‭ ‬سبقوا‭ ‬الطالب‭ ‬الأخير‭ ‬لم‭ ‬ينتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬الشطر‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬السؤال‭ ‬لضعف‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭.‬

المرونة‭ ‬المعرفية‭ ‬والطفولة

بدأت‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬والطفولة‭ ‬المبكّرة‭ ‬تحوز‭ ‬اهتماماً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬المحافل‭ ‬التربوية؛‭ ‬وذلك‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬نتائج‭ ‬الأبحاث‭ ‬العلميّة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬التي‭ ‬تشير‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭ ‬يمكن‭ ‬تنميتها‭ ‬وتطويرها‭ ‬في‭ ‬وقتٍ‭ ‬مبكرٍ‭ ‬جداً‭.‬

فعندما‭ ‬نبدأ‭ ‬بالانغماس‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬سن،‭ ‬نواجه‭ ‬تحدّياً‭ ‬لفك‭ ‬شفرة‭ ‬المعلومات‭ ‬الحسيّة‭ ‬المتدفّقة‭ ‬وغير‭ ‬المفهومة‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬يحاول‭ ‬الدماغ‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬معيّنة‭ ‬ومعنى‭ ‬للإشارات‭ ‬الواردة،‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬بسيطة‭ ‬متكرّرة‭ ‬إلى‭ ‬توليفات‭ ‬احتماليّة‭ ‬معقّدة،‭ ‬ليساعدنا‭ ‬على‭ ‬التنبّؤ‭ ‬بما‭ ‬سيأتي‭. ‬

يعتقد‭ ‬علماء‭ ‬الأعصاب‭ ‬والدماغ‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬تتحدَّد‭ ‬بمستوى‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬التي‭ ‬نمتلكها،‭ ‬وهي‭ ‬تكمن‭ ‬وراء‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭. ‬فقد‭ ‬تبيَّن‭ ‬من‭ ‬دراسة‭ ‬واسعة‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬علماء‭ ‬من‭ ‬كليّة‭ ‬الطبّ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كارولينا‭ ‬الشمالية،‭ ‬أن‭ ‬قدرة‭ ‬الدماغ‭ ‬على‭ ‬التبديل‭ ‬بين‭ ‬العمليّات‭ ‬العقليّة‭ ‬استجابة‭ ‬للمنبّهات‭ ‬الخارجيّة‭ ‬ومتطلّبات‭ ‬المهام‭ ‬المختلفة،‭ ‬تبدأ‭ ‬في‭ ‬التطوّر‭ ‬خلال‭ ‬العامين‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الإنسان،‭ ‬وهو‭ ‬وقت‭ ‬سابق‭ ‬بكثير‭ ‬لما‭ ‬كان‭ ‬يُعتقَد‭ ‬سابقاً‭. ‬وأكدوا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬السمة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تتنبّأ‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬القراءة،‭ ‬والنجاح‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬ومقاومة‭ ‬التوتر،‭ ‬والإبداع،‭ ‬وتقليل‭ ‬مخاطر‭ ‬الإصابة‭ ‬بالاضطرابات‭ ‬العصبيّة‭ ‬والنفسيّة‭ ‬المختلفة‭.‬

كذلك‭ ‬أظهر‭ ‬الباحثون‭ ‬أن‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬ذات‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬العاليّة،‭ ‬الموجودة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬الأماميّة،‭ ‬تظهر‭ ‬متّسقةً‭ ‬مع‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬الأساسيّة‭ ‬التي‭ ‬تدعم‭ ‬معالجة‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬لدى‭ ‬البالغين‭. ‬ففيما‭ ‬تُظهِر‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬التي‭ ‬تحكم‭ ‬وظائفه‭ ‬الأساسيّة،‭ ‬مثل‭ ‬المهارات‭ ‬الحركيّة‭ ‬motor skills،‭ ‬مرونةً‭ ‬عصبيّةً‭ ‬أقل‭ ‬لدى‭ ‬البالغين،‭ ‬يدلّ‭ ‬ذلك‭ ‬بوضوح‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬المرونة‭ ‬الدماغيّة‭ ‬الوظيفيّة‭ ‬تتطوَّر‭ ‬خلال‭ ‬الطفولة‭ ‬المبكّرة‭. ‬

وقال‭ ‬وايلي‭ ‬لين‭ ‬قائد‭ ‬فريق‭ ‬البحث‭ ‬الذي‭ ‬نشر‭ ‬هذه‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬دوريّة‭ “‬بناس‭” ‬في‭ ‬31‭ ‬أغسطس‭ ‬2021م‭: “‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬هذه‭ ‬قد‭ ‬تُبيِّن‭ ‬عمليّات‭ ‬النمو‭ ‬المبكّرة‭ ‬التي‭ ‬تدعم‭ ‬ظهور‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭. ‬ما‭ ‬صوّرناه،‭ ‬في‭ ‬جوهره،‭ ‬هو‭ ‬مرونة‭ ‬الدماغ‭ ‬التي‭ ‬تمهّد‭ ‬الطريق‭ ‬لنضج‭ ‬لاحق‭ ‬لوظائف‭ ‬الدماغ‭ ‬الإدراكيّة‭ ‬العليا‭”.‬

وكشف‭ ‬التحليل‭ ‬الإضافيّ‭ ‬لمناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬ذات‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬العالية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص،‭ ‬وجود‭ ‬علاقات‭ ‬ضعيفة‭ ‬وغير‭ ‬مستقرّة‭ ‬نسبياً‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬وأجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الدماغ،‭ ‬ويُحتمَل‭ ‬أن‭ ‬يُظهر‭ ‬هذا،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لهذه‭ ‬المناطق‭ ‬تبديل‭ ‬وظائفها‭ ‬بسرعة‭ ‬بين‭ ‬الشبكات‭ ‬المختلفة‭. ‬على‭ ‬نقيض‭ ‬ذلك،‭ ‬ظلّت‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالوظائف‭ ‬البصريّة‭ ‬منخفضة‭ ‬نسبياً‭ ‬طوال‭ ‬العامين‭ ‬الأولين‭ ‬من‭ ‬العمر،‭ ‬ويشير‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬قد‭ ‬نضجت‭ ‬فعلاً،‭ ‬بينما‭ ‬بقيت‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬المرتبطة‭ ‬بالمرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬قيد‭ ‬النُّضج‭.‬

وبناءً‭ ‬على‭ ‬النتائج‭ ‬التي‭ ‬أظهرتها‭ ‬هذه‭ ‬الأبحاث،‭ ‬تقع‭ ‬اليوم‭ ‬مسؤولية‭ ‬كبيرة‭ ‬على‭ ‬الأهل‭ ‬لتنمية‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭ ‬باكراً‭ ‬في‭ ‬العام‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الأطفال‭. ‬فالمهم‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬امتلاك‭ ‬التغيير‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬الارتجال‭ ‬والتكيُّف‭ ‬مع‭ ‬المواقف‭ ‬الجديدة‭ ‬لمواجهة‭ ‬أنواع‭ ‬مختلفة‭ ‬من‭ ‬التحديات‭. ‬وقد‭ ‬بدأ‭ ‬بالظهور‭ ‬فعلاً‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬الأدبيات‭ ‬التربوية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭ ‬ليساعد‭ ‬الآباءُ‭ ‬أطفالَهم‭ ‬في‭ ‬فهم‭ ‬تطبيقات‭ ‬هذه‭ ‬المهارة‭ ‬باستخدام‭ ‬بعض‭ ‬النشاطات‭ ‬البسيطة‭ ‬والممتعة‭ ‬لتنمية‭ ‬مهارات‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة‭ ‬لدى‭ ‬الأطفال‭.‬

والحال‭ ‬أنه‭ ‬فيما‭ ‬يسعى‭ ‬الباحثون‭ ‬جاهدين‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬علمي‭ ‬أوسع‭ ‬للمرونة‭ ‬المعرفيّة،‭ ‬يقول‭ ‬راند‭ ‬سبيرو،‭ ‬السالف‭ ‬ذكره،‭ ‬يمكننا‭ ‬البدء‭ ‬بإصلاح‭ ‬جذريّ‭ ‬لنظام‭ ‬التعليم‭. ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الحاضر،‭ ‬يُكيَّف‭ ‬الطلاب‭ ‬لرؤية‭ ‬المعرفة‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مواد‭ ‬مدرسيّة‭ ‬مجزّأة‭ ‬ومفكّكة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬يعانون‭ ‬عندما‭ ‬تتطلّب‭ ‬مشكلات‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقيّ‭ ‬المعقّدة‭ ‬بطبيعتها‭ ‬والمتعدّدة‭ ‬التخصّصات‭ ‬استجابة‭ ‬ما‭. ‬على‭ ‬هذا‭ ‬النحو،‭ ‬هناك‭ ‬حاجة‭ ‬ملحّة‭ ‬لأنظمة‭ ‬تعلُّم‭ ‬تعزِّز‭ “‬اكتساب‭ ‬المعرفة‭ ‬المتقدِّمة‭ ‬في‭ ‬المجالات‭ ‬المعقَّدة‭ ‬وغير‭ ‬المنظَّمة‭”.‬

عوائق

ترى‭ ‬الباحثة‭ ‬الألمانية‭ ‬ساغا‭ ‬بريغز،‭ ‬أن‭ ‬هناك‭ ‬عوامل‭ ‬عديدة‭ ‬تعيق‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفيّة؛‭ ‬ويمكن‭ ‬عند‭ ‬الإضاءة‭ ‬عليها،‭ ‬تخفيف‭ ‬أثرها‭ ‬لا‭ ‬سيّما‭ ‬على‭ ‬صغار‭ ‬السن‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬العوائق‭:‬

•‭ ‬ التحيُّز‭.‬‭ ‬نحن‭ ‬معتادون‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نعيد‭ ‬تشكيل‭ ‬المعلومات‭ ‬المقدَّمة‭ ‬إلينا‭ ‬لتتناسب‭ ‬مع‭ ‬نظرتنا‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬أو‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬المعلومات‭ ‬التي‭ ‬نتّفق‭ ‬معها‭.‬

•‭ ‬ الاختناق‭ ‬بالمعلومات‭.‬‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬أمامنا‭ ‬الكثير‭ ‬الذي‭ ‬علينا‭ ‬معالجته،‭ ‬نفقد‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬النظر‭ ‬بوضوح‭ ‬إلى‭ ‬المعلومات‭ ‬الموجودة‭ ‬أمامنا،‭ ‬لذلك‭ ‬فإما‭ ‬نتردّد‭ ‬أو‭ ‬نتخذ‭ ‬قراراً‭ ‬سيّئاً‭.‬

•‭ ‬ قوّة‭ ‬العادة‭.‬‭ ‬نحن‭ ‬نتّبع‭ ‬الخطوات‭ ‬نفسها‭ ‬ونتّخذ‭ ‬القرارات‭ ‬نفسها‭ ‬كما‭ ‬في‭ ‬الماضي‭ ‬لأنها‭ ‬مألوفة‭ ‬ومريحة‭. ‬

أخيراً،‭ ‬وبالتوازي‭ ‬مع‭ ‬ذكاء‭ ‬الآلات‭ ‬وتطوّره،‭ ‬ومن‭ ‬أجل‭ ‬مواكبة‭ ‬عالم‭ ‬المستقبل،‭ ‬لن‭ ‬نحتاج‭ ‬فقط‭ ‬إلى‭ ‬ابتكار‭ ‬أفكار‭ ‬ومنتجات‭ ‬جديدة،‭ ‬بل‭ ‬سنحتاج‭ ‬قبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬ابتكار‭ ‬أنفسنا‭ ‬على‭ ‬الدوام؛‭ ‬هذا‭ ‬يجعل‭ ‬المرونة‭ ‬المعرفية‭ ‬مفتاحاً‭ ‬للّحاق‭ ‬بالعصر‭. ‬إنها‭ ‬اللمسة‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬مستقبلٍ‭ ‬تسيطر‭ ‬عليه‭ ‬الروبوتات‭ ‬والذكاء‭ ‬الاصطناعيّ،‭ ‬وهي‭ ‬أيضاً‭ ‬فرصتنا‭ ‬
للتحكُّم‭ ‬بهذا‭ ‬المستقبل‭. ‬

عندما‭ ‬نبدأ‭ ‬بالانغماس‭ ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬نوع‭ ‬وفي‭ ‬أي‭ ‬سن،‭ ‬نواجه‭ ‬تحدّياً‭ ‬لفك‭ ‬شفرة‭ ‬المعلومات‭ ‬الحسيّة‭ ‬المتدفّقة‭ ‬وغير‭ ‬المفهومة‭ ‬في‭ ‬البداية‭. ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬يحاول‭ ‬الدماغ‭ ‬العثور‭ ‬على‭ ‬بنية‭ ‬معيّنة‭ ‬ومعنى‭ ‬للإشارات‭ ‬الواردة،‭ ‬من‭ ‬أنماط‭ ‬بسيطة‭ ‬متكرّرة‭ ‬إلى‭ ‬توليفات‭ ‬احتماليّة‭ ‬معقّدة،‭ ‬ليساعدنا‭ ‬على‭ ‬التنبّؤ‭ ‬بما‭ ‬سيأتي‭.‬

كشف‭ ‬التحليل‭ ‬الإضافيّ‭ ‬لمناطق‭ ‬الدماغ‭ ‬ذات‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬العالية‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬خاص،‭ ‬وجود‭ ‬علاقات‭ ‬ضعيفة‭ ‬وغير‭ ‬مستقرّة‭ ‬نسبياً‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬وأجزاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬الدماغ،‭ ‬ويُحتمَل‭ ‬أن‭ ‬يُظهر‭ ‬هذا،‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬لهذه‭ ‬المناطق‭ ‬تبديل‭ ‬وظائفها‭ ‬بسرعة‭ ‬بين‭ ‬الشبكات‭ ‬المختلفة‭.‬

يقول‭ ‬عالِم‭ ‬الفيزياء‭ ‬ميتشيو‭ ‬كاكو‭: “‬في‭ ‬علم‭ ‬الفيزياء،‭ ‬كلما‭ ‬ذهبنا‭ ‬عميقاً‭ ‬إلى‭ ‬العناصر‭ ‬الأساسيّة‭ ‬لتكوين‭ ‬الأشياء،‭ ‬يصبح‭ ‬الفهم‭ ‬أسهل‭ ‬فأسهل‭”‬،‭ ‬ويستطيع‭ ‬عندئذٍ‭ ‬أياً‭ ‬كان‭ ‬فهمها‭.‬

هذه‭ ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬بيانات‭ ‬التصوير‭ ‬بالرنين‭ ‬المغناطيسيّ،‭ ‬تظهر‭ ‬تطوّر‭ ‬المرونة‭ ‬العصبيّة‭ ‬بمرور‭ ‬الوقت‭ ‬منذ‭ ‬الولادة‭. ‬الصورة‭ ‬من‭ ‬مركز‭ ‬تصوير‭ ‬البحث‭ ‬الطبيّ‭ ‬الحيويّ‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬كارولينا‭ ‬الشماليّة‭.‬

**حقوق النشر محفوظة لمجلة القافلة، أرامكو السعودية

صحيفة شفق الالكترونية المدينة : جدة الايميل : [email protected] الجوال : 0591401140

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى