ادب وفن

الحيرة في شربكة والسلطة المسرحية محبكة في قراءة نقدية


بقلم/ شوقية بنت محمد الأنصاري
إن توظيف الأزمات الحياتية وربطها بمنظومة التراث الديني والاجتماعي لتكوين مادة خصبة للاستثمار بكتابة نصوص مسرحية معاصرة تحاكي الواقع، هي بحاجة لقدرات كاتب تكتمل فيه السمات الأخلاقية والإبداعية والمهارات الفنية، ووقتها ستنهض الدراما الحديثة دون طمس هوية التراث ورموزه الأسطورية، لذا نستوقف في ظلال مسارحنا السعودية ونستمطر الجمال من سحابة شربكة الطائفية، ليسيل من مدرجاتها نص مسرحي يعالج قضية ذات امتداد تأريخي للإرث العربي ألا وهي ثنائية (الحيرة والسلطة) التي لازمت الأزمات البشرية، فسلطة الذات متذبذبة مع قراراتها المصيرية وما آلت إلية من انحرافات وتحايلات بلبس العديد من الأقنعة ليزداد الانسان قوقعة في الحيرة وتنفذ سلطته، وكعادة الكاتب القدير (فهد ردة الحارثي) شكّل رمزيات ودلالات جوهرية للحيرة وربطها بمؤثرات خارجية تتحكم سلطتها الوظيفية بقرار فوق سلطة الذات، لنجد حنكته الشخصية بالنص رسمت ملامح الحكمة بتوجهاته الصائبة الملازمة على الدوم لدلالات الشبهة وما تثيره من حيرة ترافق البحث عن الحقيقة في كثير من العلوم والقضاء والأفكار والمعارف وغيرها من نواحي الحياة المهنية والمجتمعية، فجاء النص المسرحي بصياغة درامية تعيد تأريخ السلطة الحكيمة المتوازنة المنبثقة جوهريتها من قيم تعاليم ديننا، فيحيي الكاتب همة أخلاق الأمة التي تأسست في تعاملاتها على العدل والحق المبين لا على الظلم والنفاق، وهذا مافسّره (علي رضا بقلي) بقوله: (اعتمد الكتاب على التاريخ في بناء المسرحيات وهم يستوحون منه المواقف التي تثير في الشعب قوة الإرادة من أجل أسباب سياسية وقومية لتذكير الشعب بالماضي من اجل بناء مستقبل أفضل) فكما كان للأزمة دور في تهذيب السلوكيات الطائشة وأوقفت السلطة القرارات التافهة لتأتي (شربكة) وتوقظ الحس بالمسئولية لمقاومة السلوكيات الخاطئة، مثل ما كانت في عزلة مهذبة خاشعة وإلا فإنها ستنجرف في الفساد (من أمن العقوبة أساء الأدب).
وفي هذا المقال نضع رؤية نقدية تشكلت من قراءة نص وعرض (شربكة) الذي وظّف أزمة الحيرة بنظرة حكيمة وبصيرة إنسانية تقود الأفراد والمجتمع لمزاولة سلطتهم التشاركية بروح النفع والإفادة، وتعزيز دعم سلطة الحق والعدل العظيم، ليستكمل الانسان المثقف الواعي إبداعه الذي مازال يتعطش للجمال وسط معارك الحيرة المختلطة بالجهلة والحمقى والمتغطرسين من ذوي النفوس الضعيفة، ونرسم من النص مدخلا جديدا للقدرات البشرية يرتقي بمهاراتها القيادية الناعمة المحاربة للفساد، ويعزز الحسّ الإنساني الملهم، فيقودها بحكمة متجاوزا تحديات حيرة العصر الحالي وذبذبات قراراتها، هنا يخلق المشهد المسرحي للفرد ملامح جديدة لرحلة التغيير والتطوير، ويتحكم بزمام السلطة الخيرة العظيمة، هذه السلطة الحكيمة لم تقف على النص بل جاءت أيضا في رؤية إخراجية بديعة انتظمت بين المسرح والإنتاج والأداء، ليكمل المخرج (سامي الزهراني) تشكيل منظومة منسجمة الوصول بفكرتها من المؤلف للممثلين للجمهور واعتناقها بوعي متزن، وبإشراف عام وقرار استثنائي فني من المخرج (أحمد الأحمري) فسر (كريستوفر بالم) هذه الروح الفنية التشاركية بقوله: (تجاوز مفهوم الدراما نصًا للأداء إلى كتابة نص معد لأن يؤدى) فعلى مدى ساعة من الزمان ضجّ الفضاء بأداء مسرحي إبداعي وتشربك بحزمة من الأشكال الجمالية الأدائية والفنية، وقد سلّم الكاتب مفاتيح نصه للشراكة الجمعية ليتحول المشهد مع المخرج في عدة اتجاهات سياقية احترافية، نقلها الممثلين (بدر الغامدي/كامل الأوصاف مسؤول الشركة – سامي الزهراني/ دبس الرمان – عبدالوهاب الأحمري/ملول – مطر السواط/ كريم فلسفة – ممدوح الغشمري/ ضايق الصدر – سعود المالكي/ على حسب وداد) باللحظة الزمنية جعلت الجمهور يتعايش أحداث سريعة بات يتناساها مع جائحة كوفيد، ليجدها في شريط إنتاج درامي مسرحي ذا أثر وصدى، وثنائية الحيرة والسلطة تتشابك بالأحداث شربكة وينتصر صوت الحق بسلطته الإنسانية المبهرة، وخلف ستارة المسرح جهود تشاركت وصارعت وعدلت لعبة الشربكة لأكثر من شهرين بين حيرة ممثل لاستكمال الأداء، وسلطة إخراجية ناعمة تحفز أن للمشهد لعبته الرابحة، وكاتب امتلك التوازن بين الحيرة والسلطة فكان نصّه نقطة حاسمة.
وفي نظرة على المسرحية تأخذك المشاهد لرسم أبعاد درامية للأحداث بشخصياتها وحوارها وصراعها في أداء تمثيلي منغمس مع الحدث دون مبالغة في تشخيص الدور، وأبعاد اجتماعية بإشاعاتها وسلوكياتها وتناقضاتها؛ فجاءت مفرداتها متنمرة ناقدة مستهزئة صاخبة تشخّص واقع المجتمعات وحيرتها مع الأزمات، وأبعاد فنية لازمت الحدث بالموسيقى والأضواء والديكور والأزياء البسيطة؛ فكانت الخفة تتنقل بالديكورات على خشبة المسرح متسارعة التغيير بما يتواءم مع طبيعة الموقف المهني والموسيقى لحدة الصراع وانخفاضه، فأسهمت جميعها في توظيف ثنائية الحيرة والسلطة باستمرارية عالية حتى نهاية المسرحية، فاجتمعت المقومات الأساسية الثلاثة التي يتم بناء الشخصية المسرحية عليها، ذكرها (لابوس يجري) ووصفها بقوله: “الكيان الجسماني (الفسيولوجي) من جنس وعمر وطول ووزن ومظهر وعيوب، والكيان الاجتماعي (السوسيولوجي) من طبقة وعمل وتعليم وحياة منزلية ودين وهوايات، والكيان النفسي (السيكولوجي) من أخلاق ومزاج وطباع وميول وغيرها” وهي ما تكامل حضورها بشربكة بتناسق حواراتها والبنية الداخلية لأحداثها لتأتي انفعالات الشخصيات بإسلوب قريب للجمهور يفسره المسرح الواقعي بمنطقية عقلانية.
ففي المشهد الأول والثاني جاءت الإضاءة الزرقاء والحمراء كومضة للبداية مع الموسيقى الصاخبة وإيماءات الأيدي تتدلى مثل الحبال الممدودة كخلفية للمسرح، مع صمت أدائي للشخصيات التي ما لبثت أن اعتلت أصواتها بإسقاطات لدخول معركة حربية مسرحية بين الموظف والمسئول، ليجد الجمهور تحولا من الحرب للسلام عندما تشكلت على شخصية السكرتير(كامل الأوصاف) ملامح الاستغباء من مدلولات الموظفين المتسلطة عليه بقولهم: (مللتك ومللت نفسي ومللت من السيد) لينزل لمستوى الخفة معهم ويمتص غضبهم ويمحو حيرته من قرار استقالتهم، فجاء توظيف الغناء والطرب الشعبي ملائما للمشهد، حيث تعمق الممثلون بأداء اللون الشعبي أكثر من أدائهم للأغاني الحديثة، كما تناسقت لوحات الموسيقى مع تراجيديا الحيرة التائهة في شخصية (ضايق وملول) أمام سلطة (كامل الأوصاف) المتزمتة في قرارها الباعثة لأزمة نفسية في طلب العيش.
بالمشهد الثالث والرابع إشارات ورموز للاستمرارية العالية في تشكيل الحوار والصراع ختمت المشهد والجمهور على أنغام الشعر والموسيقى، فالسكرتير (كامل الأوصاف) كان مجسدا لدور السلطة المتذبذبة المهزومة من الحيرة في (أزمة كوفيد) وينقل بردة فعله الجمهور ليستذكر الأحداث الاجتماعية فجاءت شخصيات المسرحية متتابعة الحركات مع تغيير الإضاءة والأدوات الخاصة من الملابس وتحركات العمال وأصواتهم المتصاعدة مع باقي الممثلين، بين أسلوب الاستهزاء تارة والاستغباء من تأثير العالم الخارجي على المؤسسة؛ فتأتي التحولات بالمشهد ويعود بجدية ويزاول سلطته المتمردة التي واجهت أصوات التأويل اللغوي بين (المتحور والمتجذر والمتكور) بتصاعد الأحداث والصراعات في فلسفة جدلية ترسم المشهد التراجيدي المتأزم لحيرة العمال من سلطة الكبير وغاب عن المشهد مفردة (خلي بيننا مسافة) لتأتي لغة الإبداع الأدائي البديلة متشكلة في نهاية المشهد بجهاز القياس الممتد بين الممثلين في خفة وبراعة والموسيقى تلاطف الأزمة، كما تنوعت اللغة بين الفصحى والعامية بحضور تداولات لغوية شاعت في أوساط العالم الرقمي مثل: (الديرة – لا تقتل المتعة – حب القهوة) وبتوظيف اللغة الرقمية والبث المباشر للبرامج التواصلية وما تحمله من مشكلات كتردي الأنترنت وضياع الوعي الاجتماعي عبر القنوات وتردي التفاهة والثرثرة غير المجدية، ولم يوظف في هذين الفصلين الشعر الذي كان بارزا في المشهد الأول والثاني، فكان المشهد يرسم اشارات للاستمرارية العالية والبناء المتكامل لحضور الحيرة المسيطرة على العمال والسلطة المتعمقة بذكاء في (كامل الأوصاف) فكان حواره مع العمال بسيطا لطبقة تفكيرهم يدخلهم في دهاليز الاستهزاء، فتتصاعد الأراء بينهم لتكون عثرتهم وينسون طلب استقالتهم.
بين هذه المشاهد بدأت ديكورات المسرح والحيز المكاني يأخذ تركيزا يبرز الأداء المسرحي وييسر عملية الدخول والخروج السريعة للشخصيات والتي زاد حراكها مع تصاعد حيرة العمال من الأزمة، فسرها (رشدي رشاد) بقوله: “على الكاتب أن يختار المكان أو الأماكن التي يمكن أن تقع فيها أحداثه بشكل طبيعي وأن يجعلنا لا نشعر بغرابة لوجود الشخصيات في الأمكنة التي اختارها ولا لخروجها ودخولها إلى هذه الأمكنة” ففي المشهد الخامس والسادس والسابع يظهر التنوع العالي للحدث، فتأخذ ثنائية الحيرة والسلطة تصاعدا محيرا خاصة وأن تجربة العمال صفرية للتعامل مع توظيف الذكاء الاصطناعي وتقنيات العالم الافتراضي، وتأتي شخصية (كريم الفيلسوف) وتكسب السلطة في رسم ثقافة المشهد الحواري المتزن بالمعرفة والمطالبة بالحرية مع عزلة الجائحة، وبالمقابل تناقض شخصيات باقي العمال المنغمسة في الحيرة بسبب عالم التفاهة والاشاعات والثرثرة، وهذا ما أكده الكاتب بدمج الموروث الشعبي بأساطيره وكثرة جداله حين ختم به المشهد لتأكيد فلسفة الحرية وبطلها كريم ولغته الواثقة الفصيحة وسط اللغات الهمجية الاستفزازية، وكأن منطق المثقف (الفيلسوف كريم) قادم من عالم آخر لا يستوعبه العوام ، ليدرك الجميع أزمة العصر في الكلام، وقد وصفه (سرمد السرمد) بقوله: “تحوّل الكثيرين من فناني المسرح عن أسلوب الأداء الخطابي والانفعالي إلى أسلوب أكثر منطقية وقربا من الواقع المعاش” وظهر كذلك هذا الأسلوب واضحا في شخصية السكرتير (كامل الأوصاف).
أما في المشهد الثامن تشتد حدة الصراع والحوارات مع العزلة وتلامس القضايا المجتمعية الحديثة للمخدرات ومخالفي الأنظمة والفساد زادتها حدة الموسيقى للاستدعاء والأهمية، ففاقت بتعبيرها الحوار بين الشخصيات، حيث استمرت تتشابك وتتصارع بردة فعلها المتناقضة في حيرتها خاصة عند مشهد الضرب على الوجه الذي شد الجمهور وتفاعل بالصوت مع العرض لتسقط أقنعة السلطة المهنية من (كامل الأوصاف) ويتخفف الصراع تدريجيا بتوظيف الذكاء العاطفي في حفلة التعارف وانكسر دور البطل السكرتير بسبب عمق الأزمة وفلسفتها الواقعية لمراقبة نهاية الفايروس، وهنا تتجلى عبقرية الكاتب في حبك حوارات المشهد لإيصال رسالته للجمهور، وللناقدة (نهاد صليحة) رأي أدبي تقول فيه: “لغة الحوار الجدلي التي تقوم عليها الدراما لا تقيم جدلا بين شخصيات العالم المسرحي المطروح في التجربة المصنوعة فقط، بل تقيم جدلا أوسع بين عالم المسرح الوهمي وعالم المتفرج الواقعي، حيث أن المتفرج يتتبع جدل الشخصيات المتحاورة ليصل إلى فكرة مفهومة عن معنى الحدث الدائر من خلال واقعه هو دون معونة من قصاص أو راو كما في القصة والرواية”
أما المشهد التاسع والعاشر حيث النهايات تقترب لنلمس أهمية الاختيار للمخرج والتي تشكل ميزة لاختيار الممثل، والأميز منها ما اختاره الكاتب المسرحي، فالحدث يشكل له نقطة بدء يقظة بدقة ليدرك الممثل دوره في الانغماس بالشخصية وتتبع نموها النفسي البطيء، ثم تصارعها لحد التأزم والاحتدام بالحوار والصراع، ومن هنا جاءت أهمية نقطة البدء، فكاتب المسرحية يبتدأ مسرحيته حين تبدأ الأمور في التأزم، وقد اشتدت الحيرة لمراقبة أجواء العزلة، والسلطة غارقة في تضخيم شأن البث للوصف الماجن وتداول الاشاعات والطقطقة والثرثرة ليتصاعد المشهد بترك الأبواب مشرعة ودخول الفايروس المنشأة، الذي تزامن بتضخيم الموسيقى وتنويع حدة الإضاءة ليعود بطل المسرحية (كامل الأوصاف) وينجح في ختام المشهد بتوظيف سلطته بطريقة قيادية عادلة وبلغة ذكاء عاطفي انساني تمحو تشوهات الحيرة من فريق عمله، وتمثلت بتمزيق الاستقالات بشكل جماعي ليستمر دعم العمال وتعود الحياة منظمة بالشراكة واللغة الجمعية، فيترمم ما أخلفته الأزمة من سلطة غاشمة وحيرة شربكة التفاهات والاشاعات الهادمة، بهذه الجمالية تختتم المسرحية ويتلقى الجمهور فلسفة حياتية واعية: (من امتلك الحجة قادته بحكمة إلى السلطة، ومن حبك لغة الصدق سحر القلوب برفق).

زهير بن جمعه الغزال

مراسل شفق المنطقة الشرقية الأحساء 31982 ص ب 5855 موبايلي 00966565445111

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى